الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور

          ░61▒ (بَابُ مَا يُكْرَهُ): بالبناء للمفعول (مِنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ): وفي بعض الأصول الصحيحة: <المسجد> بالإفراد (عَلَى الْقُبُورِ): سيأتي بعد ثمانية أبواب أن المصنف ترجم بقوله: باب بناء المسجد.
          والاتِّخاذ _كما قال ابن رشيد_ أعمُّ من البناء، فلذا أفردهُ بترجمة، وهي تشيرُ إلى أن بعض الاتِّخاذ لا يكره، فكأنه يفصِّل بين ما إذا ترتَّب على الاتخاذ مفسدةٌ أم لا؟ نقله في ((الفتح)).
          واعترضهُ العيني فقال: دعوى العمومِ غير صحيحةٍ، ولا نسلم أن بعض الاتِّخاذ لا يكره، انتهى.
          وأقول: العموم ظاهرٌ أنَّ المراد من الكراهة: التَّحريم.
          (وَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ): أي: ابن أبي طالب (♥): والحَسَن _بفتحتين في الاسمين_ وله ولدٌ يسمَّى الحسن أيضاً فهم ثلاثةٌ على نسق، كان من ثقات التَّابعين، وأحدُ أعيان بني هاشمٍ المعتبرين، مات سنة سبع وتسعين.
          (ضَرَبَتِ): أي: نصبت (امْرَأَتُهُ): أي: فاطمة بنت الحسين ابنة عمه، وقد كانت حلفت له التَّصدُّق بجميع ما تملكه إن تزوَّجت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، ثمَّ تزوجها فأولدها محمد الدِّيباج.
          (الْقُبَّةَ): بضم القاف وتشديد الموحدة؛ أي: الخيمة (عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً): فالمراد بالقبَّة: الخيمة، كما رواه المحاملي بلفظها في الجزء السادس عشر.
          وروى ابن أبي الدنيا في ((كتاب القبور)) من طريق مغيرة بن المقسم قال: لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته على قبره فسطاطاً فأقامت عليه سنة، وهذا هو المرادُ من قوله هنا؛ فإن ضرب الخيمةَ على القبر سَنَة لا يستدعي الإقامة فيها.
          (ثُمَّ رُفِعَتْ): بالبناء للمفعول أو للفاعل؛ أي: أزيلت عن القبر.
          قال الزين ابنُ المنير: إنما ضربت الخيمةُ هناك للاستمتاعِ بقربه، وتعليلاً للنفسِ وتخييلاً باستصحابِ المألوف من الأنس، ومكابرةً للحس، كما يتعلَّل بالوقوف على الأطلالِ الباليةِ، ويخاطبُ المنازل الخالية فجاءتهم الموعظةُ على لسانِ الهاتفين بتقبيح ما صنعوا.
          (فَسَمِعُوا): أي: المرأةُ ومن معها، ولأبي ذرٍّ: <فسمعت> أي: عند رفعها (صَائِحاً): بالصاد والحاء المهملتين، كأنَّه من مؤمني الجنِّ أو الملائكة، قاله ابن التين.
          (يَقُولُ: أَلاَ هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا؟): بفتح القاف وللكشميهني: <ما طلبوا> والاستفهام للتوبيخ (فَأَجَابَهُ آخَرُ): أي: صائحٌ غير المنادي أولاً، وفي بعض النسخ: <الآخر> (بَلْ يَئِسُوا): بكسر الهمزة (فَانْقَلَبُوا).
          ومطابقةُ الحديث للترجمةِ: أن المقيم في الفسطاطِ لا يخلو من الصَّلاة فيه، فيستلزم اتِّخاذ المسجد عند / القبر، وقد يكون القبرُ في جهةِ القبلة فتزداد الكراهة.
          وإذا أنكرَ الصائح البناء الزائل وهو الخيمة، فينكر البناءَ الثَّابت كالمسجد من باب أولى، لكن الحكم الشرعي لا يؤخذُ من كلام الصَّائح، بل من الكتاب والسنة والقياس والإجماع، ولا وحيَ بعده عليه السلام، وإنما هذا ونحوهُ ينبِّه به على استنباطِ الأدلَّةِ الشرعيَّةِ من مظانِّها.
          وفيه: جواز نصبِ الخيمة على القبر، وكرههُ أحمد.
          وقال ابن بطَّال: أوَّل من ضرب خيمةً على قبرٍ عمرُ بن الخطاب، ضربها على قبر زينب بنت جحش زوج النبي صلعم، وقال ابن وهب: ضربُ الخيمةِ على قبر المرأةِ أولى من ضربهِ على قبر الرَّجل، وممن أوصى أنه لا يضربوا عليه فسطاطاً: أبو هريرة، وضربت عائشة على قبرِ أخيها فنزعهُ ابن عمر، وضربَ محمد بن الحنفية على قبرِ ابن عبَّاسٍ فأقاموا ثلاثة أيامٍ عليه.
          وقال العيني: وممن كرههُ على قبر الرجل: ابن عمر وأبو سعيد وابن المسيب، ورآهُ ابن حبيب واسعاً إلى ثلاثة أيَّام إذا خيف من نبشٍ أو غيره.