الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أتاني آت من ربي فأخبرني أنه من مات من أمتي

          1237- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ): أي: المنقري، قال: (حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ): بفتح الميم وسكون الهاء وكسر الدال أي: (ابْنُ مَيْمُونٍ): الأزدي، قال: (حَدَّثَنَا): وفي بعض النسخِ الصَّحيحة: <أخبرنا> فيه وفيما بعده (وَاصِلٌ): بالصاد المهملة المكسورة؛ أي: ابن حَيَّان، بفتح المهملة وتشديد المثناة التحتية.
          (الأَحْدَبُ): بالحاء المهملة الساكنة بعدها موحدة، ضدُّ: الأقعس (عَنِ الْمَعْرُورِ): بفتح الميم وسكون العين المهملة وبراءين أولاهما مضمومة (ابْنِ سُوَيْدٍ): بالسين المهملة مصغَّراً (عَنْ أَبِي ذَرٍّ): أي: جَندب بن جَنادة _بفتح الجيم فيهما_ (☺، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: أَتَانِي): أي: في المنامِ (آتٍ): أي: جبريلُ، كما سماه المصنف في التوحيد (مِنْ رَبِّي ╡): وسقط: <╡> من أكثر النسخ (فَأَخْبَرَنِي _أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِي_): وفي بعض النسخ المعتمدةِ زيادة فاء في: ((بشرني))، واقتصرَ في التوحيد على: ((فبشرني)) من غير شك.
          وزادَ الإسماعيلي من طريق مهدي في أوله قصة، قال: كنا مع رسولِ الله صلعم في مسيرٍ له، فلما كان في بعض الليل تنحَّى فلبث طويلاً ثمَّ أتانا فقال: ((أتَانِي آتٍ))، الحديث، وأوردهُ المصنف في اللباس عن أبي ذرٍّ قال: ((أتيتُ النَّبيَّ صلعم وعليه ثوبٌ أبيضٌ وهو نائمٌ، ثمَّ أتيتُهُ / وقدْ استيقَظَ)).
          وقوله: (أَنَّهُ): بفتح الهمزة؛ أي: بأنَّه؛ أي: الشَّأن والأمرُ (مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي): أي: أمة الإجابةِ أو أمَّةَ الدَّعوة، واستوجه الثاني في ((الفتح))، وجملة: (لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً): حالية، وقوله: (دَخَلَ الْجَنَّةَ): جواب الشرط، ورواهُ المصنف في اللباس بلفظ: ((ما من عبدٍ قال: لا إله إلَّا الله ثمَّ ماتَ على ذلك))، الحديث.
          قال في ((الفتح)): وإنما لم يوردهُ المصنِّف هنا جرياً على عادتهِ في إيثارِ الخفيِّ على الجليِّ، وذلك لأن نفي الشِّركِ يستلزمُ إثبات التَّوحيد، ويشهدُ له استنباط ابن مسعودٍ في ثاني حديثي الباب.
          وقال القُرطبي: معنى نفي الشِّرك: أن لا يتَّخذَ مع الله شريكاً في الإلهيَّة، لكن هذا القول صار بحكمِ العرف عبارة عن الإيمان الشرعي.
          (قُلْتُ): بلا فاء للأكثر، ولأبي ذرٍّ: <فقلت> بفاء، وكذا لأبي الوقتِ في نسخة (وَإِنْ زَنَىَ وَإِنْ سَرَقَ؟) هذا القولُ ومقوله من قول أبي ذرٍّ على تقدير همزة الاستفهام وفعل؛ أي: أيدخل الجنَّةَ وإن زنى وإن سرق؟ وقوله: (قَالَ: وإنْ زَنَىَ وَإِنْ سَرَقَ): من كلام النَّبي صلعم لأبي ذرٍّ كما بينته رواية المصنف في اللباس، وكذا الترمذي بقوله: قال أبو ذرٍّ: يا رسولَ الله وإن سرق وإن زنى؟ ثلاث مرات، جواباً وزاد: وفي الرابعة قال: ((على رغمِ أنفِ أبي ذرٍّ))، وإن كان قد يتبادرُ من اللفظ أن القائلَ الأول هو النَّبيُّ صلعم، والثَّاني جبريل.
          قال في ((الفتح)): ويمكن أن يكون النَّبيُّ قاله مستوضحاً، وأبو ذرٍّ قاله مستبعداً.
          ونقلَ هذا الجمع العيني عن صاحب ((التلويح)).
          قال الكرمانيُّ: فإن قلت: ليس في الجواب استفهام فيلزمُ منه أن من لم يسرق ولم يزنِ لا يدخلُ الجنَّة، إذ انتفاءُ الشرط يستلزمُ انتفاءَ المشروط.
          قال في ((الفتح)): وكأن أبا ذرٍّ استحضر قولهُ عليه السلام: ((لا يَزنِي الزَّانِي حينَ يَزنِي وهو مؤمِنٌ)) أي: والسرقة مثلهُ؛ لأن ظاهر ذلك معارضٌ لظاهرِ الخبر، لكن الجمع بينهما على قواعدِ أهل السُّنَّةِ ممكنٌ بحمل هذا على الإيمانِ الكامل، وبحملِ حديث الباب على عدم الخلودِ في النار.
          وهذا الحديثُ على حد: ((نعم العبدُ صهيبٌ لو لم يخف الله لم يعصهِ))، فلا يرد أن مفهوم الشرط أنه إذا لم يزن ولم يسرق لا يدخلُ الجنة.
          واقتصرَ من الذنوب على نوعين؛ لأن الحقَّ إما لله أو للعبادِ فأشار إلى نوعي الحقين، نعم، الذي استقرَّتْ عليه قواعدُ الشَّرع أن حقوقَ العباد لا تسقطُ بمجرَّدِ الموت على الإيمان، ولكن لا يلزمُ من عدم سقوطها أن لا يرضي الله عنها الخصماء ممَّن يريدُ أن يدخله الجنَّةَ مع السَّابقين، ولذا ردَّ النَّبي صلعم على أبي ذرٍّ استبعاده، أو يرادُ بقوله: ((دخَلَ الجنَّةَ)) ولو مآلاً.
          وفى الحديثِ: أن الكبائر لا تسلبُ الإيمان خلافاً للخوارجِ والمعتزلة قبَّحهم الله.
          وفيه: أن من لم يكن مؤمناً لا يدخلُ الجنَّةَ، وهو كذلك، وأن الكبائرَ لا تحبطُ الطاعات.