الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من استعد الكفن في زمن النبي فلم ينكر عليه

          ░28▒ (بَابٌ: مَنِ اسْتَعَدَّ الْكَفَنَ): أي: أعدَّه، فـ((الكفن)) مفعول ((استعد))، ويجوز كون السين للطلب، وإن قيل: إنها ليست له (فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلعم فَلَمْ يُنْكَرْ): بفتح الكاف، مبنيًّا للمفعول، كما في الفرع وأصله.
          وقال في ((الفتح)): إنها روايتنا، وفي نسخ معتمدة بكسرها، وقال العيني: ويروى على صيغةِ المعلوم، وقال الزَّركشي: بكسر الكاف وروي بفتحها، انتهى.
          وضميرُ الفاعل عائد على ((النبي)) وهي أظهرُ في الدَّلالة على جواز الاستعدادِ للكفن.
          (عَلَيْهِ) متعلِّق بـ((ينكر)) وضميره لـ((من استعد)) وحكى الزَّين ابن المنير: أنه روي: ((فلم ينكره)) بالهاء بدل ((عليه)) وضميره للكفنِ المستعدِّ، والأولى عودهُ إلى الاستعدادِ المدلول عليه بـ((استعد)).
          وأما إنكارُ الصَّحابة عليه، فلطلبه البُردة من النَّبي مع احتياجهِ إليها لكن لما قال: إنما طلبتها لأكفِّنَ فيها عذروه، وفيه دليلٌ على جواز تحصيلِ ما لا بدَّ للميِّت منه في حياته ككفنٍ ونحوه، فإعدادهُ في حياته وإن جاز لكنه لا ينبغي، فقد قال الفقهاء: واللفظ لـ((التحفة)): ينبغي أن لا يعدَّ لنفسه كفناً إلا إن سلمَ من شبهةٍ، أو هي فيه أخفُّ، ومع هذا فلا يحتاجُ أن يقال: أو كان من آثار من يتبرَّكُ به؛ لأنه لا يُكتَفى بكونه من آثارهِ إلا إن خفت الشبهة فيدخلُ في الأول، ثمَّ إذا عيَّنه تعيَّن كما لو قال: اقضِ ديني من هذه العين، وترجيحُ الزَّركشي جواز إبداله كثياب الشَّهيد، فيه نظرٌ، انتهى.
          وقال في ((شرح الروض)): قال الزركشيُّ: لو أعدَّ له قبراً ليدفنَ فيه فينبغِي أن لا يُكره؛ لأنَّه للاعتبار بخلافِ الكفنِ، قال العبَّادي: / ولا يصيرُ أحقَّ به ما دام حيًّا، ووافقهُ ابن يونس، انتهى.
          وقد يقال: في إعداد الكفنِ اعتبارٌ أيضاً وإن كان في القبر أبلغُ، وقد قال عليه السلام: ((أفضَلُ المؤمِنِينَ إيمَاناً أكثَرُهُم للمَوتِ ذِكْراً وأحسَنُهُمْ لهُ استِعْدَاداً)).
          وقول الصَّيمري من الشَّافعية: لا يستحبُّ للإنسان أن يعدَّ لنفسه كفناً؛ لئلا يحاسبَ عليه، انتهى.
          فيه نظرٌ؛ لأن المحاسبةَ عليه لاكتسابه وتحصيلهِ أعدَّهُ لنفسه كفناً أم لا، وقال شيخُ الإسلام: لا ينبغِي عند الشَّافعيَّة أن يعدَّ لنفسهِ كفناً؛ لئلا يحاسب على اتِّخاذه كما يحاسبُ على اكتسابه إلا أن يقطع بحلِّه، أو يكون من أثر ذي صلاحٍ فيحسن إعداده كما هنا، انتهى.
          وقال ابنُ بطَّال: حفرُ القبر جائزٌ، فقد حفرَ جماعةٌ من الصُّلحاء قبورهم قبل الموتِ بأيديهم؛ ليتمثلوا حُلول الموت.
          وتعقَّبهُ الزين ابن المنير: بأنه لم يقعْ من أحدٍ من الصَّحابة، قال: ولو كان مستحبًّا لكثر فيهم، انتهى.
          وردَّ العينيُّ التَّعقُّب بقوله: لا يلزم من عدم وقوعهِ من أحدٍ من الصَّحابة عدم جوازه؛ لأن ما رآه المؤمنون حسناً، فهو عند الله حسنٌ، ولا سيَّما إذا فعله قومٌ من الصُّلحاء، انتهى.
          وفيه أيضاً: أن ابن المنيِّر فهمَ من كلام ابن بطَّال استحبابهُ لا أصل جوازه، مع أن المفهومَ منه الجواز، فتدبَّر.