الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب سنة الصلاة على الجنائز

          ░56▒ (بَابُ سُنَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الْجَنَائِزِ): ولأبي ذرِّ: <على الجنازة> بالإفراد، والمراد بالسُّنَّة _كما قال الزين ابن المنير_ هنا: ما شرعهُ النَّبي صلعم في صلاةِ الجنازة فيشملُ الواجبَ والمندوبَ.
          قال في ((الفتح)): ومرادُ المصنِّف بما ذكره من الآثارِ والأحاديثِ: أن لها حكمَ غيرها من الصَّلوات من الشَّرائط والأركانِ، وليستْ مجرَّدَ دعاءٍ، فتجزئ بغير طهارةٍ مثلاً، وسيأتي ما في ذلك من الخلاف.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: مَنْ صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ): هذا التعليق طرفٌ من حديثٍ يأتي موصولاً بعد باب، ووصله مسلم عن أبي هريرة وعن ثوبان، وجواب الشَّرط محذوفٌ؛ أي: ((فله قيراطٌ)) ولم يذكره؛ لأنَّ القصْد: الصَّلاة على الجنازةِ.
          (وَقَالَ): أي: النَّبي صلعم (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ): أي: الميِّت الذي عليه دينٌ لا يفِي به، وهذا وصَله المصنِّف في الحوالةِ عن سلمة بن الأكوعِ، وأوله: كنَّا جلوساً عند النَّبي صلعم إذ أُتِي بجنازةٍ فقالوا: صلِّ عليها فقال: ((هَل عليهِ دَينٌ؟)) قالوا: ثلاثةُ دنانير، قال: ((صَلُّوا على صاحِبِكُم)).
          (وَقَالَ): أي: النبي عليه الصَّلاة والسَّلام (صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ): وتقدَّم وصله في باب الصُّفوف على الجنازة قريباً بلفظ: ((فصلوا عليه)).
          وقوله: (سَمَّاهَا): أي: سمَّى النبي صلعم صلاة الجنازةِ (صَلاَةً): أي: في هذه الأحاديث مستأنفٌ من البخاري.
          وقوله: (لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلاَ سُجُودٌ): جملة حاليَّة مقرونة بالضَّمير فقط.
          والغرضُ من ذلك: أنها تفارقُ الصَّلوات بخلوها عن الركوعِ والسُّجُود، لكن يشترط فيها ما يشترطُ في الصَّلاةِ من عدم الكلامِ فيها، ومن تكبيرة الإحرام والسلام، وإن اختلفَ في عدد التَّكبيرات والسَّلام كما يأتي.
          وقال الكرماني: غرضُ البخاري: بيان جوازِ إطلاق الصلاة على صلاةِ الجنازة، وكونها مشروعةً، فالصلاة لفظ مشتركٌ بينها وبين الصَّلاة المعهودةِ، وهي حقيقةٌ شرعيَّةٌ فيهما، انتهى ملخَّصاً.
          وظاهرهُ: أنَّ الاشتراك لفظيٌّ، والمعروف أنه معنويٌّ، ومن ثمَّ عرَّفوها بأنها: أقوالٌ وأفعالٌ مخصوصةٌ مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتَّسليم غالباً.
          وتنظيرُ العينيِّ في كلامِ الكرماني غير واردٍ؛ لأن صلاة نحو الأخرس خارجةٌ بقولهم: غالباً، وكذا لا يردُّ قوله: ولا يفهم من كلام البخاري... إلخ، لمن تدبَّر.
          قيل: إنما لم يكن فيها ركوعٌ ولا سجودٌ؛ لئلا يتوهَّم بعض الجهلة أنها عبادةٌ للميِّتِ، فيضل بذلك.
          (وَلاَ يُتَكَلَّمُ فِيهَا): بالبناء للمفعول ويحتمل للفاعل (وَفِيهَا تَكْبِيرٌ): يشملُ تكبيرةَ الإحرام مع النِّيَّة وثلاثة تكبيراتٍ بعدها، ويرفع يديه في تكبيرةِ الإحرام اتِّفاقاً، ولا يرفعُ في غيرها خلافاً للشافعيَّة والحنابلة.
          (وَتَسْلِيمٌ): أي: مرَّتين عند الفراغ منها، وهو مذهبُ جمهورِ العلماء من السَّلف والخلف، وعند المالكيَّة: تسليمةٌ واحدةٌ خفيفةٌ يسمع بها من يليه، وروي ذلك عن عليٍّ وابن عباس وابن عمر وجابر وأبي هريرة وأنس وأبي أمامة وعن جماعةٍ من التَّابعين.
          (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ): أي: ابن الخطَّاب (لاَ يُصَلِّي): بالبناء للفاعل؛ أي: على الجنازةِ (إِلاَّ طَاهِراً): أي: من الحدثين الأصغر والأكبر، ومن النَّجس مطلقاً، لحديث مسلمٍ: ((لا يقبَلُ اللَّهُ صَلاةً بغَيرِ طُهُور))، وقد وصله في ((الموطأ)) عن نافع بلفظ: أنَّ ابن عمر كان يقول: لا يصلِّي الرَّجلُ على الجنازةِ إلا وهو طاهرٌ / .
          وظاهرُ المتن: أنَّ فاعل ((لا يصلي)): عائدٌ على ابن عمر، ومقتضى رواية ((الموطأ)) عودهُ للرَّجل، لكن تحتاجُ إلى تقدير: يقول قبل: لا يصلِّي، كما قدَّره القسطلاني.
          وفيه _كما قال ابن بطال_ ردٌّ على الشعبي؛ فإنَّه أجاز الصَّلاة على الميِّت بغير طهارةٍ، قال: لأنَّها دعاءٌ ليس فيها ركوعٌ ولا سجود، لكنَّ الفقهاء سلفاً وخلفاً مجمِعُون على خلافهِ.
          قال: وأجمعوا على أنها لا تصلَّى إلا إلى القبلة، ولو كانت دعاءً كما زعم الشعبي لجازت إلى غيرِ القبلة، انتهى.
          ومثلها بقيَّة الشُّروط، ومن الطَّهارة: التَّيمُّم عند فقدِ الماء حسًّا أو شرعاً، ويجوزُ عند أبي حنيفة والثوري والليث وعطاء والأوزاعي التيمم مع وجودِ الماء إذا خافَ فوتها لو توضَّأ، وكان غيرُ الوليِّ، ومثله صلاة العيد، فتأمل.
          (وَلاَ يُصَلِّي): بالتحتية لأبي ذرٍّ؛ أي: وكان ابن عمر لا يصلِّي على الجنازة، ولغير أبي ذرٍّ: <ولا تُصَلَّى> بالبناء للمفعول والمثناة؛ أي: صلاة الجنازة.
          (عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبِهَا): وعلى هذه فلا تعليقَ، كما إذا جعل: ولا يُصَلَّى، على الأول مبنياً للمفعول، والذي ينبغي أن يكون تعليقاً على كلِّ حال، أما على رواية أبي ذرٍّ فظاهرٌ، وكذا على غيرهما، ويكون المعنى: وكان ابن عمر يقول: ((لا تُصلَّى صَلاةُ الجنَازَة عنْدَ طُلوعِ الشَّمسِ ولَا عنْدَ غُرُوبِها)).
          وقد وصلَ هذا التَّعليق سعيد بن منصور عن نافع قال: كان ابنُ عمر إذا سُئل عن الجنازةِ بعد صلاة الصُّبح وبعد صلاة العصر يقول: ما صلَّينا لوقتهما، وما هذه ظرفيَّة مصدرية، كما يدلُّ عليه رواية مالكٍ عن نافع قال: كان ابن عُمر يصلِّي على الجنازة بعد الصبح والعصر إذا صليتا لوقتهما، ومقتضاهُ: أنهما إذا أُخِّرتا إلى وقتِ الكراهة لا يُصلَّى عليها حينئذٍ.
          ويدلُّ له ما رواهُ مالكٌ عن ابن عمر أنه قال وقد أتي بجنازةٍ بعد صلاةِ الصبح: إما إن تُصلُّوا عليها وإما أن تترُكُوها حتى ترتفِعَ الشَّمس، وروى ابنُ أبي شيبة عن ابن عمر: أنه كان يكره الصَّلاة على الجنازة إذا طلعت الشَّمسُ وحتَّى تغربَ، فكان ابن عمر يخصُّ الكراهةَ بما عند طلوع الشَّمسِ وعند غروبها.
          وإلى قوله في ذلك ذهبَ مالكٌ والأوزاعي والكوفيُّون وإسحاق وأحمد، وعند الشَّافعيَّة: لا يُكره إذا لم يتحرَّ؛ لأن سببها متقدِّم ولخبر: ((أسرِعُوا بالجِنَازة)).
          (وَيَرْفَعُ): أي: وكان ابن عمر يرفع (يَدَيْهِ): أي: حذوَ منكبيه استحباباً كغيرها من الصلوات، وهذا التعليق وصله المصنف في ((الأدب المفرد)) له عن ابن عمر: أنه كان يرفعُ يديه في كلِّ تكبيرةٍ على الجنازة، ووصله أيضاً الطبراني عن ابن عمر بسندٍ ضعيفٍ، أمَّا الرفع في التَّكبيرةِ الأولى فبالاتفاق، لما رواه الترمذي عن أبي هريرة رفعه: ((إذَا صلَّى عَلى جنازَةٍ يرفَعُ يدَيهِ فِي أوَّلِ تكبِيرَةٍ))، زاد الدَّارقطني: ((ثمَّ لَا يعُودُ)).
          وقال ابن بطَّال: واختلفوا في رفعِ اليدين في تكبيرِ الجنازة، فقال مالك في ((المدونة)): لا يرفعُ يديهِ إلا في التَّكبيرة الأولى، وإليه ذهبَ الكوفيون والثوري، وروى ابن وهب عن مالك: أنه يعجبهُ الرَّفع في كلِّ تكبيرةٍ، وروي مثله عن ابن عمر وسالم وعطاء والنخعي ومكحول والزهري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، وروى ابن حبيب عن ابن القاسم: أنه لم يكن يرى الرَّفع في الأولى ولا في غيرها.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ): أي: البصري. قال في ((الفتح)): لم أرهُ موصولاً.
          (أَدْرَكْتُ النَّاسَ): وفي بعض الأصول المعتمدة: ((ناساً)): أي: من الصَّحابة والتَّابعين (وَأَحَقُّهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ): سقط: <بالصلاة> لغير أبي ذرٍّ.
          وقوله: (مَنْ رَضُوهُمْ لِفَرَائِضِهِمْ): ورضُوهم: بالجمع لغير الكشميهني، وله بالإفراد، و((من)) الموصولة أو الموصوفة خبر ((وأحقهم)).
          وأثرُ الحسن المذكور يدلُّ على أن من أدركهم كانوا يلحقون صلاة الجنازةِ بالصلوات الخمسة، ولعلَّ كان الأحق بالصَّلاة على الجنائزِ من كان أحق بالفرائضِ، فقد أخرج عبد الرزاق عن الحسن: إن أحقَّ النَّاس بالصَّلاة على الجنازةِ الأبُ ثم الابن.
          واختلفَ في ذلك، فعند الشافعيَّةِ: أولى الناس بالصَّلاة على الميِّتِ الأبُ فأبوه وإن علا، ثمَّ الابن فابنه وإن سفل، ثمَّ الأخ لأبوين فلأب، ثمَّ ابن أخٍ كذلك، ثم باقي العصبات على ترتيبِ الإرث، فالسُّلطان إن انتظمَ بيت المال، ثمَّ ذوو الأرحام، ولو اجتمع اثنان في درجةٍ كابنين فالأسنُّ في الإسلام العدل أولى من الأفقه، ونحوه على النصِّ بخلاف إمامةِ الصلاة؛ لأنَّ الغرض هنا: قبول الدُّعاءِ، ودعاء الأسنِّ أقربُ للإجابة، ومن ثمَّ قدم الأقرب فالأقربَ نظراً لمزيد الشَّفقةِ المقتضيةِ لمزيد انكسار القلبِ المقتضي لزيادةِ / الخشوع المقتضي لاستجابة الدُّعاءِ، ويقدم الحر البعيد على العبدِ القريب، ولا حقَّ للنِّسَاء، فيقدم الذكر عليهنَّ ولو أجنبيًّا، فإن لم يوجد إلا النساء قُدِّمت القربى بفرضِ ذكورتها، ولا تسقط بفعلهنَّ وهناك رجالٌ، فإن كان صبي أمرنهُ، فإن لم يصلِّ صلين.
          وعند الأئمَّة الثلاثة: الأولى: الوالي فإمامُ المسجد فالولي، كبقيَّةِ الصلوات، وهو القديمُ عندنا، وقد علمتُ أن الغرضَ الدُّعاء، وهو من القريبِ أقربُ للإجابة.
          وقال في ((الفتح)): وهي مسألةُ اختلافٍ بين أهل العلم، فروى ابن أبي شيبة عن جماعة منهم: سالم والقاسم وطاوس: أن إمامَ الحيِّ أحقُّ، وقال علقمة والأسود وآخرون: الوالي أحقُّ من الوليِّ، وهو قولُ مالكٍ وأبي حنيفة والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال أبو يوسف والشافعي: الوليُّ أحق من الوالي، انتهى.
          ومثلهُ في ابن بطال، وزاد: إلا أنَّ مالكاً قال في الوالي والقاضي: إن كانت الصَّلاة إليهم فهم أحقُّ من الوليِّ، انتهى.
          فيقدمون على الموصى لهُ بها، ومن ثمَّ لا تنفذ وصيَّتهُ بإسقاطها، وما وردَ أن أبا بكر أوصى بأن يصلِّي عليه عمر فصلَّى عليه، وأنَّ عمر أوصى أن يصلِّي عليه صهيبٌ فصلَّى عليه، وأن عائشةَ أوصت أن يصلِّي عليها أبو هريرة فصلَّى عليها، فهو محمولٌ على أنَّ الأولياء أجازوا الوصيَّة.
          وعند المالكيَّة: يقدم الموصى له لأنَّ الميت أعرف بمن يشفع له، إلا إن كانت لعداوةٍ بينه وبين الولي.
          (وَإِذَا أَحْدَثَ): أي: من يريدُ الصلاة (يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ عِنْدَ الْجَنَازَةِ): أي: عندَ حضورها (يَطْلُبُ الْمَاءَ): أي: ليتوضَّأ (وَلاَ يَتَيَمَّمُ): أي: إلا إذا لم يجد الماءَ، وهذا يحتملُ أنه معطوفٌ على أصل الترجمة، ويحتمل أنه بقيَّة كلام الحسن.
          ويؤيِّد الثاني ما روى ابن أبي شيبة عن كثير بن شنظير أنه قال: سئل الحسن عن الرَّجلِ يكون في الجنازة على غيرِ وضوء فإن ذهبَ يتوضَّأ تفوته؟ قال: يتيمَّم ولا يصلي إلا على طُهرٍ، ويؤيِّد الأول ما روى حماد بن منصور عن كثير بن شنظير: أنَّ الحسن قال حين سُئِل عن ذلك: يتيمَّم ويصلي.
          (وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْجَنَازَةِ وَهُمْ يُصَلُّونَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ بِتَكْبِيرَةٍ): أي: بتكبيرةِ الإحرام، ثم يأتي بعد سلامِ الإمام بما فاته، وهذا الأثرُ أيضاً من كلام الحسن، فهو يقوِّي الاحتمال الثاني، فقد وصله ابنُ أبي شيبة عنه بهذا اللفظ.
          قال في ((الفتح)): وخالفَ في ذلك بعض المالكية.
          ويسنُّ أن لا ترفع الجنازة حتى يتمَّ المسبوق ما عليه، فلو رفعت قبله لم يضرَّ، وإذا تخلَّفَ المقتدي بتكبيرةٍ بلا عذرٍ بطلت صلاته بأن لم يكبِّر حتى كبَّر إمامه أخرى؛ لأن المتابعةَ لا تظهر هنا إلا بالتَّكبيراتِ فكان التخلُّف بتكبيرةٍ فاحشاً؛ لأنها بمنزلة ركعةٍ، وقيل: لا تبطل إلا بتخلُّفه بتكبيرتين؛ لأنها كركنٍ.
          ولا تبطلُ بتقدُّمهِ على إمامه بتكبيرةٍ على ما جرى عليه شيخ الإسلام تبعاً لبعضهم، وتبعه ابنُ حجر، وفرَّق بينه وبين التأخُّر: بأن غاية التقدُّم أنه كزيادة تكبيرةٍ.
          واعتمدَ الرملي أنها تبطلُ به، قال: لأنه أفحشُ من التأخُّرِ، وأما إذا كان عمداً عذر نحو نسيانٍ أو بطئِ حركة فلا تبطلُ إلا بتخلفه بتكبيرتين.
          (وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: يُكَبِّرُ): أي: المصلِّي على الجنازة (بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ، أَرْبَعاً): أي: أربع تكبيراتٍ، ففيه بيانُ أنها لا تنقص في السَّفر عن أربعٍ ولا بالليل، ومطابقتهُ للترجمة من جهة أنَّ فيه بيان أن السُّنَّة في صلاةِ الجنازة أربعُ تكبيرات.
          وهذا التَّعليق قال في ((الفتح)): لم أرهُ موصولاً عنه ووجدتُ معناه، أخرجه بإسنادٍ قويٍّ ابن أبي شيبة عن عقبة بن عامر الصَّحابي موقوفاً.
          (وَقَالَ أَنَسٌ): أي: ابن مالك (تَكْبِيرَةُ الْوَاحِدَةِ): بإضافة الموصوف إلى الصفة، وللأربعة: <التكبيرة الواحدة> بالصفة (اسْتِفْتَاحُ الصَّلاَةِ): خبر ((تكبيرة)) أي: صلاة الجنازة، فليست الأربعة زائدةً على تكبيرة الإحرام.
          وهذا التَّعليق وصله سعيد بن منصُور عن يحيى بن أبي إسحاق أنه قال: [قال] رزيق بن كريم لأنس بن مالكٍ: رجل صلى فكبَّر ثلاثاً؟ قال أنس: أوليس التكبير ثلاثاً؟ قال: يا أبا حمزة التَّكبير أربع، قال: أجل، غير أن واحدة هي افتتاح الصَّلاة، وتقدم في باب الصفوف على الجنازة الخلاف في عدد التكبيرات.
          (وَقَالَ): الله تعالى: (({وَلَا})): عطف على الترجمة ({وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} [التوبة:84]) وسقط: <{مَاتَ أَبَداً}> لأبي ذرٍّ وابن عساكر.
          غرضُ المصنف من إيرادِ الآية: أنه تعالى سمَّى الصلاة على المنافقينَ صلاةٌ.
          (وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإِمَامٌ): عطف على قوله: ((وفيها تكبير وتسليم)) / ، وضمير ((فيه)) يرجع إلى صلاة الجنازة، وتذكير ضميرهِ باعتبار المذكور، أو فعل الصلاة، وأراد أن كون الصُّفوف في صلاة الجنازةِ، وكون الإمام فيها يدلَّان على إطلاق الصَّلاةِ على صلاة الجنازة، ولو جعل ضمير ((وفيه)) عائداً إلى ما ذُكر من صلاة النبي صلعم وأصحابه على من مات منهم، وهي مشتملةٌ على صفوفٍ وإمامٍ لم يمتنع، فتدبر.
          هذا وقال في ((الفتح)): قرأت بخطِّ مغلطاي: كأنَّ البخاري أراد الرَّدَّ على مالكٍ؛ فإن ابن العربي نقل عنه: أنه استحبَّ أن يكون المصلُّون على الجنازة سطراً واحداً، قال: ولا أعلمُ لذلك وجهاً، انتهى.
          وقال ابن رشيد _نقلاً عن ابن المرابط وغيره_ مرادهُ من هذا الباب: الرَّدُّ على من يقول: إنها دعاءٌ واستغفارٌ، فتجوز على غير طهارةٍ.
          ونقل ابن عبد البرِّ: الاتفاق على اشتراطِ الطَّهارة فيها، إلا ما نُقِل عن الشعبي وإبراهيم بن عليَّة، وهو ممن يُرغَبُ عن قوله.
          ونقل غيره: أن ابن جرير الطَّبري وافقهما على ذلك، وهو مذهبٌ شاذٌّ.
          ثمَّ اعترضَ ابن رشيد فقال: وفي استدلالِ البخاري بالأحاديث التي صدرَ بها الباب لمطلوبه من إثبات شرط الطَّهارة إشكالٌ؛ لأنَّه إن تمسَّك بالعرف الشرعيِّ عارضَه عدم الرُّكوع والسُّجود، وإن تمسَّكَ بالحقيقةِ اللغوية عارضهُ الشَّرائط المذكورةُ ولم يستوِ التَّبادر في الإطلاق، فيدَّعي الاشتراك لتوقُّفِ الإطلاق على القيدِ عند إرادةِ الجنازةِ، بخلاف ذات الرُّكوعِ والسُّجود، فتعيَّن الحملُ على المجاز.
          وأجابَ في ((الفتح)) بما حاصلهُ: أن المؤلِّف لم يستدلَّ على مطلوبهِ بمجرَّد تسميتها صلاةً، بل به وبما انضمَّ إليه من اشتراطِ جميع شرائط الصَّلاة إلا الرُّكوع والسُّجود لحكمةٍ تقدَّمت، فبقي ما عداهما على الأصل.