الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الجريد على القبر

          ░81▒ (بَابُ الْجَرِيدُ): أي: حكمُ وضعه (عَلَى الْقَبْرِ): ولأبي ذرٍّ: <الجريدة> بالتاء، وهي كما في ((الصحاح)): ما جرَّد عنه الخوص، فإن لم يجرد عنه سُمِّي سعفاً، وفي ((القاموس)): هي سَعَفةٌ طويلَةٌ رطْبَةٌ أو يابِسَةٌ، أو التي تُقَشَّر من خُوصِها.
          (وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ): بضم الموحدة مصغَّراً (الأَسْلَمِيُّ): بفتح الهمزة وسكون السين؛ أي: ابن الحصيب _بحاء وصاد مهملتين مصغَّراً_ مما وصله ابن سعد بلفظ: أوصى بريدة أن يوضع في قبرهِ جريدتان، ومات بأدنى خراسان، انتهى.
          (أَنْ يُجْعَلَ): بضم أوله (فِي): وللمستملي: <على> (قَبْرِهِ جَرِيدَانِ): بغير مثناة فوقية بعد الدال المهملة، ولأبي ذرٍّ: <جريدتان> بتاء بعد الدال، وظاهرُ رواية ((في)) أنَّ أبا بريدة أوصى بجعل الجريدتين داخلِ قبره لما يرجو من مزيدِ نفعها، ويحتملُ أنها بمعنى على فتوافقها، ويكون أمر بذلك اقتداءً بفعل النبي في وضعهِ الجريدة على القبرين لتخفيفِ العذاب، وهو الأظهر، وصَنيع المصنف يدلُّ له، وبأن بريدة حمل الحديثَ على عدم تخصيصهِ بالرجلين كما هو الأصل.
          وقال ابن بطال: إنما خصَّ الجريد بالنخل؛ لأن النَّخلةَ أطولُ الثمار بقاءً، فيطول مدة التخفيف، وهي شجرةٌ شبَّهها النَّبي بالمؤمن، وقيل: إنها شجرةٌ خُلِقَتْ من فضلة طينةِ آدم عليه السلام، انتهى.
          قال ابن رشيد: ويظهر من تصرُّفِ البخاري: أن ذلك خاصٌّ بهما، فلذلك عقبه بقول ابن عمر: ((إنَّما يُظلُّه عملهُ)) انتهى.
          وفيه: أن الجريدَ فيه خاصيَّةٌ لتخفيف العذاب، بدليلِ تقييدِهِ بقوله: ((ما لَم ييبَسَا))، ولعلَّ غرض البخاري بيان أن ليس كلُّ موضوعٍ على القبر ينفعُ الميت، بل إذا كان له كمالُ تسبيحٍ ككل رطب من جريدٍ وآس ونحوهما، فلا يرد أن كل شيء يسبح بحمده.
          ثم رأيتهُ في ((الفتح)) ذكر في آخر الباب: أن الذي يظهر من تصرُّفِ البخاري: سنُّ وضع الجريد على القبرِ، وقال فقهاؤنا _واللفظ لابن حجر_: يسنُّ وضع جريدةٍ خضراء على القبرِ للاتباع، وسنده صحيحٌ؛ ولأنه يخفف عنه ببركةِ تسبيحهَا، إذ هو أكملُ من تسبيحِ اليابسةِ لما في تلك من نوعِ حياةٍ، وقيسَ بها ما اعتيدَ من طرحِ الريحانِ وغيره، ويحرمُ أخذ ذلك _كما بحث_ لما فيه من تفويتِ حقِّ الميت، وظاهرهُ: أنه لا حرمةَ في أخذ يابسٍ أعرض عنه لفوات حقِّ الميت بسببه، ولذا قيدوا ندبَ الوضعِ بالأخضر وأعرضوا عن اليابسِ بالكليَّة نظراً لتقييدهِ عليه السلام التَّخفيف بالأخضر ما لم ييبس، انتهى.
          (وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ): أي: عبد الله (☻ فُسْطَاطاً): بتثليث الفاء وسكون السين المهملة وبطائين مهملتين بينهما ألف، ويجوز إبدال الطائين بمثناتين وإبدال أولاهما تاء فقط، وإبدالها وإدغامها في السين، فهذه اثنتي عشرة لغة، وهي الخباءُ من الشِّعر، وقد تكون من غيره وزاد الزركشيُّ: وأصلها عمودُ الخباءِ الذي يقومُ عليه.
          (عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ): أي: ابن أبي بكرٍ لتصريحهِ به، وهذا التعليقُ الذي وصله ابن سعد من طريق أيوب بن عبد الله بن يسار بلفظ: قال مرَّ عبد الله بن عمر على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر أخي عائشة وعليه فسطاطٌ مضروبٌ، فقال: يا غلام انزعهُ فإنما يُظلُّه عمله، قال الغلام: تضربُنِي مولاتي، قال: كلا، فنزعهُ، ومن طريق ابن عون عن رجلٍ قال: قدمَتْ عائشة ذا طوى حين رفعوا أيديهم عن عبد الرحمن بن أبي بكر، فأمرت بفُسطاط فضُرِب على قبرهِ ووكَّلَتْ به إنساناً وارتحلَتْ، فقدمَ ابن عمر، فذكر نحوه.
          (فَقَالَ): أي: ابن عمر (انْزِعْهُ يَا غُلاَمُ، فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ): أي: لا غيرهُ من فسطاط أو غيره، لكن هذا إن كان وضع عائشة الخيمة لما ذكر، ولعلَّ الظاهر: أنها وضعتها ليستظلَّ بها الزائر له، فيأبى كلام ((الفتح)) ذلك.
          (وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ): ابن ثابتٍ الأنصَاري، أحد فقهاءِ المدينة السبعة (رَأَيْتُنِي): بضم المثناة الفوقية، والفاعل والمفعول ضَميران لشيء واحد، وهو من خصَائصِ أفعالِ القلوبِ، والتقدير: رأيتُ نفسِي، وفي بعض النسخ المعتمدة: ((لقد رأيتُني)) (وَنَحْنُ شُبَّانٌ): بضم الشين المعجمة وتشديد الموحدة / ونون آخره، جمع: شاب، والجملة الاسميَّة حالية (فِي زَمَنِ عُثْمَانَ): أي: ابن عفَّان في مدَّةِ خلافته.
          (☺، وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً): بالمثلثة؛ أي: طفرةً، مصدر: وَثَبَ يَثِبُ وَثْباً ووَثْبَةً (الَّذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ): بظاء معجمة ساكنة ثم عين مهملة، والموصول خبر ((إن)) (حَتَّى يُجَاوِزَهُ): بالزاي، قال شيخ الإسلام وغيره: ومناسبةُ هذا الأثر للترجمةِ من حيث إن وضعَ الجريدةِ على القبر يرشدُ إلى جواز وضعِ ما يرتفعُ به ظهرُ القبر عن الأرض، فالذي ينفع الميِّتَ عمله الصَّالح وعلوُّ البناء على القبر لا يضرُّ، انتهى.
          وتقدَّم في كلام ابنِ رشيد أن ذكرهُ ليدلَّ على أن وضعَ الجريدةِ على القبرين خاصٌّ بهما، والحاصلُ: أن مناسبة ذكرِ هذه الآثار السَّابقة واللَّاحقة في هذا الباب في غايةِ الخفاء، وبعضها أخفَى من بعضٍ، ولعلَّ ما ذكرهُ ابن المنير أقرب في الجملة، فتأمَّل.
          وقال ابنُ رشيد في أثر خارجةَ: إن هذا الأثر والذي بعدهُ من باب مَوعظة المحدِّث عند القبر، وقعودُ أصحابهِ حوله، وكأنَّ بعض الرواة كتبهُ في غير موضعهِ، وقال: وقد يتكلَّفُ لكونه من هذا الباب بأن فيه إشارةً إلى أن ضربَ الفسطَاط إن كان بغرضٍ صحيحٍ كالتستر للحيِّ من الشمس مثلاً، لا لإظلال الميِّت فقط جاز فكأنه يقول: إذا أعلى القبر بغرضٍ صحيح لا لقصدِ المباهاة جاز، كما يجوزُ القعود عليه لغرضٍ صحيحٍ لا لمن أحدث عليه، انتهى ملخصاً.
          وقال ابنُ المنير: ويمكن أن يقال: هذه الآثارُ المذكورة في هذا الباب تحتاجُ إلى بيانِ مناسبتها للترجمةِ، فذكر أثر بريدةَ، وهو يؤذن بمشروعيَّةِ وضع الجريدة، وذكر أثر ابن عمر وهو يشعرُ بأنه لا تأثيرَ لما يوضعُ على القبر، بل التَّأثيرُ للعملِ الصالح، فلذلك أبهم حكمَ وضع الجريدة.
          وقال في ((الفتح)): والذي يظهرُ من تصرُّفه ترجيح الوضْع، ويجاب عن أثر ابن عمر: بأن ضرب الفسطاطِ على القبرِ لم يرد فيه ما ينتفعُ به الميت، بخلاف الجريدةِ؛ فإنَّ مشروعيتها ثبتتْ بفعلهِ عليه السلام، انتهى ملخَّصاً.
          (وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيْمٍ): بفتح الحاء المهملة وكسر الكاف، هو أبو سهلٍ الأنصاري (أَخَذَ): بفتحات؛ أي: أمسكَ (بِيَدِي خَارِجَةُ): أي: ابن زيدٍ السابق آنفاً، سببُ ذلك كما في ((مسند مسدد الكبير)) مما وصله فيه من حديثِ أبي هريرة أنه قال: ((لأن أجلس على جمرةٍ فتحرق ما دونَ لحمي حتى يفضي إليَّ، أحبُّ إلي من أن أجلسَ على قبر))، فقال عثمان بن حكيم: فرأيتُ خارجة بن زيد في المقابر، فذكرتُ له ذلك، فأخذ بيدي (وَأَجْلَسَنِي عَلَى قَبْرٍ، وَأَخْبَرَنِي عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ): بتحتية أوله فزاي (ابْنِ ثَابِتٍ): بمثلثة أوله، أنَّه (قَالَ): أي: يزيد (إِنَّمَا كُرِهَ): ببنائه للمفعول (ذَلِكَ): أي: الجلوسُ على القبر (لِمَنْ أَحْدَثَ): بفتح الهمزة (عَلَيْهِ): أي: مما لا يليق كقولٍ فاحشٍ أو فعلٍ كذلك، كالبول والغائطِ؛ فإن ذلك حرامٌ لتأذِّي الميت به.
          لكن قال ابن بطال: تأويلهُ بما ذكر بعيدٌ؛ لأن الحدث على القبرِ أقبحُ من أن يكره، وإنما يكرهُ الجلوسُ المتعارف.
          وقال النووي: المرادُ بالجلوس في الأحاديثِ: القعودُ عند الجمهور، ومنهم: أبو حنيفة، وقال مالكٌ: المراد فيها بالقعود: الحدث، قال: وهو تأويلٌ ضعيفٌ، وقال النووي في ((شرح المهذب)): مذهب أبي حنيفة وأصحابه كقول مالكٍ كما نقله عنهم الطَّحاوي، واستدلَّ بأثر ابن عمر المذكور، وأخرجَ عن علي نحوه، وعن زيد بن ثابت مرفوعاً: ((إنما نهى النَّبي عن الجلوس على القبور لحدثِ غائطٍ أو بول))، ورجاله ثقات.
          ويؤيِّد الجمهور ما أخرجه مسلمٌ عن أبي مرثد الغنوي مرفوعاً: ((لا تجلِسُوا على القُبُور ولا تُصلُّوا إليهَا))، وما أخرجه أحمد من حديث عَمرو بن حزمٍ الأنصاري مرفوعاً: ((لَا تقعُدُوا على القُبُور))، وفي روايةٍ له عنه: رآني رسول الله وأنا متَّكئ على قبرٍ فقال: ((لا تؤذِ صاحِبَ القبرِ))، إسناده صحيحٌ، انتهى من ((الفتح)) مفرقاً.
          وناقشه العينيُّ في كثير منها بما يعلم للواقف على كلامهما من حالهما، وقد تعرَّض له في ((الانتقاض)).
          (وَقَالَ نَافِعٌ): أي: مولى ابن عمر (كَانَ ابْنُ عُمَرَ ☻ يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ): أي: يقعدُ عليها؛ لأنه يحمل النَّهي الوارد في ذلك القعودِ للحدثِ عليها كما مرَّ / .
          تنبيه: قال الكرماني _وتبعَه البرماويُّ_: يزيد بن ثابت أخو زيد بن ثابت، قُتِل يوم اليمامة، ويقال: إنَّه بدري، قال بعضُهم: هذا وهمٌ؛ لأن خارجةَ مات سنة مائة وهو ابن سبعين سنة، قال ابنُ عبد البر: روى عنه خارجة، ولا أحسبه سمعَ منه.
          أقول: عن عمه ليس مستلزماً لسماعهِ منه، فلعله روى مرسلاً عنه، انتهى.