الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الصبر عند الصدمة الأولى

          ░42▒ (بَابٌ: الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى): بتنوين ((باب)) وعدمهِ، فما بعده مبتدأ وخبر، أو مضاف إليه على تقدير نحو: حكم.
          وتقدير ((الفتح)): أي: هو المطلوبُ المبشَّر عليه بالصَّلوات والرحمة، ومن هنا تظهرُ مناسبةُ إيراد أثر عمر في هذا البابِ، انتهى.
          يشيرُ إلى الوجه الأول، فافهم.
          (وَقَالَ عُمَرُ): أي: ابن الخطَّاب (☺: نِعْمَ الْعِدْلاَنِ، وَنِعْمَ الْعِلاَوَةُ): و((نعم)): كلمة مدح، وما يليها فيهما فاعلها، والمخصوصُ بالمدح محذوفٌ هنا، ومذكورٌ في رواية الحاكمِ الآتية قريباً.
          وقال الكرمانيُّ: المخصوص: {الذين...} إلخ.
          وثبتت تاء التأنيث في ((نعم)) الثانية في بعض النسخ المعتمدة.
          والعِدلان: تثنية: عِدل _بكسر العين_ وأصله: نصف الحمل على أحدِ شقَّي الدابة، فالعدلان: الحمل، والمراد هنا: المثلان.
          و((العِلاوة)): بكسر العين أيضاً: ما يجعلُ بين العدلين، فهو مثلٌ ضرب للجزاء.
          وقال الفرَّاء: العَدل _بالفتح_ ما عدلَ الشيء من غير جنسهِ، وبالكسر: المثل، والعِلاوة _بالكسر_ ما علقت على البعير بعد تمام الوَقر، نحو: السِّقاء.
          وهذا الأثر المعلق وصله الحاكمُ في ((مستدركه)) عن عمر، كما ساقه المصنِّف، وزاد: (({أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} نعم العدلان {وَأُوْلَئِكُ هُمْ المُهْتَدُوْنَ} نعمَ العلاوة))، وأخرجه عبد بن حُميد في ((تفسيره)) عن عمر نحوه، وظهرَ بهذا مراد عمر بالعدلين وبالعلاوة، وأنَّ العدلين: الصَّلاة والرحمة، والعلاوة: الاهتداء، ويؤيدهُ وقوعهما بعد ((على)) المشعرة بالفوقيَّة المشعرة بالحمل.
          وأخرج الطبراني في ((الكبير)) نحو قول عمر عن ابن عباس مرفوعاً قال: قال رسول الله صلعم: ((أعطيَتْ أمَّتِي شيئاً لم يعطه أحَدٌ من الأُمَم عندَ المصِيبَة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ} إلى قوله: {المُهْتَدُوْنَ})).
          قال: فذكرَ أن المؤمن إذا سلَّم لأمر الله واسترجعَ كُتِبَ له ثلاث خصَالٍ من الخير: الصَّلاة من الله، والرَّحمة، وتحقيق سبل الهدى، فأغضَّ ((الفتح)) عن التكلُّفِ / في ذلك كقولِ المهلب: العَدْلان: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ}، والعلاوة: الثواب عليهما.
          وكقول الكرماني: الظَّاهر: أن المرادَ بالعدلين: القولُ وجزاؤه؛ أي: قولُ الكلمتين، ونوعا الثَّواب الثواب.
          وكقول ابنِ التين: قال أبو الحسن: العَدْل الواحد: قول: {إِنَّا لِلَّهِ..} إلى آخرها.
          والعدلُ الثاني: الصَّلوات التي عليهم من الله.
          والعلاوة: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ المُهْتَدُوْنَ}، وهو ثناءٌ من الله تعالى عليهم.
          وقيل: العدلان: الصَّلاة والرحمة و((العلاوة)): الاهتداء، وقال الدَّاودي: إنما هو مثلٌ ضربهُ للجزاء.
          في قوله تعالى: ({الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ}): هي ما يصيبُ الإنسان من المكروه ({قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ}): أي: عبيداً وملكاً.
          ({وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}): أي: في الآخرةِ، فلا يضيعُ عمل العاملين، وليس الاسترجاعُ باللسان فقط، بل وبالقلبِ أيضاً بأن يتصوَّر ما خلق له، وأنه راجعٌ إلى مولاه، ويتذكَّر نعمه عليه، ليعلم أن ما أبقى له أضعافَ ما أخذ منه، ليهوِّن على نفسه ويستسلم له.
          ({أُولَئِكَ}): أي: (({الذين أصابتهم مصيبة})) ({عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ}): أي: مغفرةٌ أو رحمةٌ بالتعظيم ({مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}): من عطف العام على الخاص على الثاني، والمغاير على الأول ({وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156-157]): أي: الكاملونَ في الاهتداءِ.
          (وَقَوْلُهُ تَعَالَى): معطوف على ((الصبر)) ففيه الرفع والجر، وإن اقتصرَ كثيرونَ على الجرِّ ({وَاسْتَعِينُوا}): أي: على حوائِجِكُم وطاعاتكُم.
          ({بِالصَّبْرِ}): أي: عليها وبانتظارِ الفرجِ توكُّلاً على الله، وقيل: المراد بالصَّبر: الصوم، وهو من التُّروك، أو الصَّبر عن الميت بترك الجزع.
          وقال الطَّبري: الصبر منع النفس محابَّها وكفها عن هواها، ولذلك قيل لمن لم يجزع: صابر، لكفِّه نفسه، وقيل لرمضان: شهر الصَّبر، لكفِّ الصائم نفسَه عن المطعم والمشرَب.
          ({وَالصَّلاَةِ}): أي: الشرعيَّة بالالتجاءِ إليها؛ فإنها جامعةٌ لأنواع العباداتِ النَّفسية والبدنية، أو بفعلها مشتملةً على الخشوعِ، أو الإخلاص وغيرها من مكمِّلاتها ومصحِّحاتها، ومن أسرارها: أنها تعينُ على الصَّبرِ لما فيها من الذِّكرِ والدعاء والخضُوع، وكلها تضادُّ حب الرئاسة، وعدمُ الانقياد للأوامرِ والنواهِي.
          ({وَإِنَّهَا}): أي: الاستعانةُ بهما أو (({الصلاة}))، وتخصيصُها بردِّ الضمير إليها لعظمِ شأنها واستجماعها ضروباً من الصبر، أو جملة ما أمروا به ونهوا عنه.
          ({لَكَبِيرَةٌ}): ثقيلةٌ شاقَّةٌ على كلِّ أحدٍ ({إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]): والاستثناء مفرغ؛ أي: على المخبتين؛ فإنَّ الخشوعَ: الإخبات، والسُّكون بخلافِ الخضُوع؛ فإنه: اللِّين والانقياد، ولذلك يقال: الخشوعُ بالجوارحِ، والخضوعُ بالقلبِ.
          قال في ((الفتح)): وكأنَّ المصنف أراد بإيرادِ هذه الآية ما جاء عن ابن عبَّاس: أنه نعي إليه أخوه قثم وهو في سفرٍ، فاسترجع، ثم تنحَّى عن الطَّريق فأناخ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قامَ وهو يقول: {وَاسْتَعِيْنُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية، أخرجه الطبرانيُّ في ((تفسيره)) بإسنادٍ حسنٍ.
          وعن حذيفة قال: ((كَانَ رسولُ اللهِ صلعم إذَا حزنَهُ أمرٌ صَلَّى)) أخرجه أبو داود بإسناد حسنٍ أيضاً.