الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب موت الفجأة البغتة

          ░95▒ (بَابُ مَوْتِ الْفَجْأَةِ): أي: بيان حكمهِ من كراهةٍ أو غيرها كما سيأتي بيانه (الْبَغْتَةِ): بجر ((البغتة)) على البدل من ((الفجأة)) أو عطف بيان، ويجوز رفعها خبراً لمحذوف؛ أي: وهي البغتةُ، قالهُ ابن رشيدٍ وغيره، وللكُشميهني: <بغتة> بالتنكير، وفيها الوجهان في المعرف.
          والفَجْأة: بفتح الفاء وسكون الجيم والهمزة من غير مد، كما في الفرع، وروي لغيره: بضم الفاء فجيم مفتوحة ممدودة بعدها همزة فهاء تأنيث فيهما، وموتُ الفجأةِ: هو الموتُ من غير سببٍ، يقال: فجَأهُ الأمرُ وفجِئه _بالفتح والكسر_ خلافاً لابن درستويه، حيثُ قال في ((تصحيح الفصيح)): والعامَّةُ تفتح ماضيهِ.
          ففي ((المحكم)): فَجَأهُ وفَجِيئهُ يَفْجَؤُه فَجْأ وفُجَاءة وافتَجَأه وفاجَأهُ مُفَاجَأةً: هجمَ عليه من غير أن يشعرَ به.
          وحكى المطرزيُّ عن ابن الأعرابي: أنه يقالُ: أتيته فجأة والتقاطاً وعيناً وبذذاً؛ أي: بغير تلبُّثٍ.
          قال ابن المنير: لعلَّ البخاريَّ أرادَ بالترجمة: أنَّ من مات فجأةً فليستدرك ولدهُ من أعمال البرِّ ما أمكنهُ مما يقبلُ النِّيابة، كما في حديثِ الباب.
          وقال ابن رشيد: ومقصودُ المصنف: الإشارةُ إلى أن موت الفجأةِ ليس / بمكروهٍ؛ لأنَّه عليه السلام لم يظهر منه كراهةٌ لما أخبره الرَّجلُ بأن أمه افتلتت نفسها، وأشارَ المصنِّفُ بالترجمة إلى ما رواه أبو داود بسندٍ رجالهُ ثقاتٌ من حديث عُبيد بن خالدٍ السلمي الصَّحابي، لكنه ليس على شرطهِ ولفظه: ((موتُ الفجأَةِ أخذَةُ أسَفٍ)).
          قال في ((الفتح)): أسف، كغضب وزناً ومعنى، قال: وروي بوزن فاعل؛ أي: غضبان، وإلى ما رواه أحمد عن أبي هريرة: أن النَّبيَّ صلعم مرَّ بجدارٍ مائل فأسرع وقال: ((أكرهُ موتَ الفوات)).
          وقال البرماويُّ _تبعاً للكرماني_: روي مرفوعاً: ((أكرهُ موتاً كموتِ الحمار)) قيل: وما موتُ الحمارِ؟ قال: ((موتُ الفجأَةِ))، انتهى.
          وكأنَّ وجهه _كما قال ابن بطَّال_ ما في موت الفجأةِ من خوف حرمان الوصيَّةِ وترك الاستعداد للمعادِ بالتوبة، وغيرها من الأعمالِ الصَّالحةِ، روى ابن أبي الدنيا عن أنسٍ نحو حديث عبيد بن خالدٍ المارِّ آنفاً وزاد فيه: ((المحرومُ من حُرِم وصيَّتهُ)).
          وفي ((مصنف ابن أبي شيبة)) عن عائشةَ وابن مسعود: ((مَوتُ الفجأَةِ راحَةٌ للمُؤمِنِ، وأسَفٌ على الفَاجِرِ)) فقوله: راحَةٌ للمؤمن؛ أي: المتهيِّئ للموت والمراقب، وعلى هذا التَّفصيل يحملُ ما وردَ من مدحهِ وذمِّهِ، فقد نقل أحمدٌ وبعضُ الشَّافعية كراهتَه.
          ونقل النَّووي عن بعضِ المتقدِّمين: أنَّ جماعةً من الأنبياء والصَّالحين ماتوا فجأةً، قال: وهو محبوبٌ للمراقبين. وقد نقل السُّيوطي في كتاب ((الخصائص)): أنَّ موتَ الفجأةِ يكونُ بقتل الخضرِ عليه الصلاة السلام.