الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما ينهى من سب الأموات

          ░97▒ (بَابُ مَا يُنْهَى مِنْ سَبِّ الأَمْوَاتِ): بإضافة: ((باب)) إلى ((ما)) الموصولة أو النكرة الموصوفة، و((يُنهَى)) مبني للمفعول، ونائب فاعله يعود على ((ما))، وهو على تقدير ((عنه)) بعد ((ينهى))، وثبتت في بعض الأصولِ المعتمدة.
          و((من سب الأموات)): بيان لما، وقدرها شيخُ الإسلام، لكنه جعل ((ما)) مصدرية فقال: أي: بيان ما يدلُّ على النهي عنه من الأحاديث، و((ما)) مصدرية، انتهى. وما قلناه أولى، فتدبَّر.
          (الأَمْوَاتِ) بيان لـ((ما))، والسَّبّ _بفتح السين المهملة وتشديد الموحدة_؛ أي: الشَّتمُ.
          قال في ((القاموس)): سبَّهُ: قطَعَهُ، وطعَنَه في السَّبَّة؛ أي: في الاستِ، وشتَمَه سبًّا وسبِّيبَى كخِلِّيفَى، كسبَّبَهُ وعَقَرَه، وتسَابَّا: تقاطعا، والسُّبَّة _بالضم_ العارُ، ومن يُكثِر الناس سَبَّه وشتمه، وبالكسر: الإصبَعُ السَّبَّابة، وبالفتح: من الحرِّ والبرْدِ والصَّحوِ أن يدُوم أيَّاماً، والزَّمنُ من الدَّهر، انتهى مفرَّقاً.
          ومثله في ((الصحاح)) والمناسب هنا: الشَّتمُ، ويحتملُ على بعد: القطع.
          وقال العيني: ((سبُّ الأموات)) شتمُهُم من السَّبِّ، وهو القطع، وقيل: من السبة، وهي حلقةُ الدبر، كأنه على القول الأول: قطع المسبوبِ عن الخيرِ والفضل، وعلى الثاني: كشفُ العورة وما ينبغي أن يُستَر، انتهى فتأمَّله.
          قال الزين بن المنير: لفظ الترجمة يشعرُ بانقسام السَّبِّ إلى منهيٍّ عنه وغير منهيٍّ عنه، ولفظ الخبر مضمونهُ النهي عن السَّبِّ مطلقاً.
          والجواب: أن عمومهُ مخصوصٌ بحديث أنسٍ المار حيثُ قال عليه السلام عند ثنائهم بالخيرِ وبالشَّرِّ: ((وجبت)) و((أنتم شهداء الله في الأرض))، ولم ينكرْ عليهم، ويحتمل أن اللام في ((الأموات)) عهدية، والمرادُ به: المسلمون؛ لأن الكفَّار مما يتقرب إلى الله بسبِّهم.
          وقال ابن رشيد: النَّهيُ عن السَّبِّ يشملُ المسلم والكافر، أمَّا الكافر: فإن تأذى به الحيُّ المسلم فلا يجوزُ، وأما المسلمُ: فحيث دعت ضرورةٌ إلى ذلك جاز، كأن يكون من قبيلِ الشَّهادة، ومنه: الميت المثنى عليه بالشَّرِّ، وقد يكون لمصلحة الميِّتِ كمن علم أنه أخذَ ماله بشهادة زورٍ ومات الشَّاهد، فإن ذكر ذلك ينفع الميت إن علم أنه يردُّ إلى صاحبه.
          قال: ولأجل الغفلةِ عن هذا التَّفصيل ظنَّ بعضُهُم أنَّ البخاريَّ غفل عن حديثِ الثَّناءِ بالخير والشَّرِّ، وليس كذلك، بل إنما قصد البخاريُّ أن يبينَ أن الجائزَ ما كان على معنى الشهادة، والممنوعُ ما كان على معنى السَّبِّ، ولما كان حديثُ الباب قد يشعرُ بالعموم أتبعهُ بالتَّرجمةِ التي بعده.
          وتأوَّلَ بعضهم الترجمة الأولى على المسلمين خاصَّةً، والوجهُ عندي: حملهُ على العموم إلا ما خصَّه الدليل، بل لقائلٍ أن يمنع أن ما كان على جهة الشَّهادةِ وقصد التَّحديثِ يسمى سبًّا.
          وقال القرطبي: النَّهي محمولٌ على ما بعد الدفن، والجوازُ على ما قبله ليتَّعظَ به من يسمعهُ من فُسَّاق الأحياء.
          وقال ابن بطَّال: يجري مجرى الغيبةِ سبُّ الأموات، فإن كان فاسقاً معلناً فلا غيبةَ له، وإن غلب عليه الخيرُ فاغتيابه ممنوعٌ.
          قال: ويحتملُ أن النَّهي على عمومهِ فيما بعد الدَّفنِ، فإنه إذا صارَ إلى قبره فقد أفضى إلى ما قدَّمَ، وقد عملت عائشة راوية الحديث بذلك، فإنها / كانت تلعنُ يزيدَ الأرجي قبل موتهِ، وذلك لأنَّ عليًّا أرسله برسالة أيام الجملِ إلى عائشة فلم تردَّ عليه جواباً، فبلغها أنَّه عاب عليها، فكانت تلعنهُ لاستحقاقهِ اللَّعنَ عندها، فلما ماتَ قالت: كُفَّوا عن ذي قبرٍ فإنَّ رسول الله صلعم ((نهانا عن سَبِّ الأموات))، وقالت: أستغفرُ الله.
          وقيل: إن النَّهي العام متأخِّرٌ فيكون ناسخاً، وهذا ضعيفٌ، بل جواز السَّبِّ لهم مخصوصٌ فيمن كان كافراً أو منافقاً أو متجاهراً بالفسقِ، وكلامُ البخاري يرشدُ إلى هذا بهذه الترجمة وبالتي بعدها مع حديثهما، وإن قال العينيُّ: لا نسلمُ بإشعار الترجمة بالانقسام المذكورِ، بل هي للعموم، وأن ((ما)) مصدرية.
          قال: ولا يردُّ على البخاري حديث الثَّناء بالشَّرِّ، قال: لأن الثَّناء بالشَّرِّ على الميِّتِ لا يسمى سبًّا، انتهى فتأمَّله منصفاً.