الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار

          1238- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عُمْرُ): بضم العين (ابْنُ حَفْصٍ): أي: النخعي، قال: (حَدَّثَنَا أَبِي): أي: حفص بن غياث، قال: (حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ) قال: (حَدَّثَنَا شَقِيقٌ): هو أبو وائل بن سلمة، ووقع في بعض النسخ: <أخبرنا> بدل: ((حدثنا)) فيما عدا الأول (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ): أي: ابن مسعودٍ (☺): والإسناد كلهم كوفيُّون كما في ((الفتح)).
          (قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللَّهِ صلعم: مَنْ مَاَتَ يَشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً): وسقط: <شيئاً> لأبي ذرٍّ وابن عساكر (دَخَلَ النَّارَ) وقوله: (وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ): من كلام ابن مسعودٍ قاله استنباطاً من هذا الحديثِ، وإلا فهو حديث أبي ذرٍّ سوى تغييرٍ يسير، ووجهُ استنباطهِ من هذا: أن انتفاءَ السَّبب يوجبُ انتفاء المسبب، فإذا انتفى الشِّركَ انتفى دخولَ النار، وإذا انتفى دخول النَّارِ لزم دخول الجنَّةِ، إذ لا دارَ بين الجنَّةِ والنار، وأصحابُ الأعراف قد عُرِف استثناؤهم من العموم، ويحتملُ أنه أخذهُ من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} الآية [النساء:48].
          قال في ((الفتح)) في / رواية أبي حمزةَ عن الأعمش في تفسير البقرة: ((من مَاتَ يدعُو من دونِ الله ندًّا دخل النَّار))، وفي أوله: قال النَّبي صلعم كلمةً وقلت أنا أخرى، ولم تختلف الروايات في ((الصحيحين)) أن المرفوع الوعيد والموقوفَ الوعد، وزعم الحُميدي في ((الجمع)) وتبعهُ مغلطاي في ((شرحه)) ومن أخذ عنه أن في رواية مسلمٍ من طريق وكيع وابن نُمير بالعكس بلفظ: ((من ماتَ لا يشركُ بالله شيئاً دخلَ الجنَّة))، وقلت أنا: من مات يشركُ بالله شيئاً دخل النار.
          وقال النووي: وجد في بعض الأصول المعتمدة من ((صحيح مسلم)) عكسَ هذا، وكأن سببَ الوهم في ذلك ما وقع عند أبي عوانة والأصيلي من طريق وكيعٍ بالعكس، لكن بيَّن الإسماعيليُّ أنَّ المحفوظ عن وكيع كما في البخاري قال: وإنما المحفوظُ الذي قلبه أبو معاوية وحدَه، وبذلك جزم ابن خُزيمة في ((صحيحه)).
          والصَّوابُ: رواية الجماعة كلهم من طريقِ شقيق، وهذا هو الذي يقتضيهِ النظر؛ لأن جانبَ الوعيد ثابتٌ بالقرآن، وجاءت السُّنَّةُ على وفقهِ فلا يحتاجُ إلى استنباط بخلاف جانبِ الوعد؛ فإنَّهُ في مقام البحثِ، إذ لا يصحُّ حمله على ظاهره، وكأنَّ ابن مسعودٍ لم يبلغه حديث جابرٍ الذي أخرجه مسلمٌ بلفظ: قيل: يا رسول الله ما الموجبات؟ قال: ((من ماتَ لا يُشرِكُ باللَّهِ شيئاً دخَلَ الجنَّةَ، ومن ماتَ يشرِكُ باللَّهِ شيئاً دخلَ النَّارَ)).
          وقال النووي: الجيِّدُ أن يقال: سمع ابن مسعودٍ اللَّفظين من النَّبي صلعم، ولكنه في وقتٍ حفظ إحداهما ولم يحفظ الأخرى، فرفعَ المحفوظة وضمَّ الأخرى إليها، وفي وقتٍ بالعكس، قال: فهذا جمع بين روايتي ابن مسعود وموافقته لرواية غيره في رفع اللفظين، انتهى.
          قال في ((الفتح)): وهذا الذي قاله محتملٌ، لكن فيه بعدٌ مع اتِّحاد مخرج الحديث.
          ووجهُ مطابقتهِ للتَّرجمة _كما قال العيني_ من حيث أن الذي يموت مشركاً يدخل النَّارَ، ويفهمُ منه أن الذي يموتُ ولا يشرك بالله تعالى دخل الجنَّةَ؛ فإن من لا يشرك بالله هو القائل: لا إله إلا الله فحصل التَّطابقُ من هذه الحيثيَّةِ، ومثلهُ يقال في الحديثِ الأول، وبهذا يجابُ عما قيل: ليس الحديثُ موافقاً للتَّبويب، فتدبَّر.