الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول النبي: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه

          ░32▒ (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم): فيما وصله المصنف في هذا الباب عن ابن عبَّاسٍ عن عمر بن الخطاب (يُعَذَّبُ): بالبناء للمفعول (الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ): إذا اشتملَ على نحو نوحٍ أو شقِّ جيبٍ، وأوصى به أهلهُ، وأما مجرَّدُ دمع العين فلا مؤاخذةَ به، وكذا إذا لم يوص به، لكن علمَ من عادتهم أنَّهم يبكون مع نحو النَّوحِ.
          ولذا قال المصنف: (إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ): بضم السين وتشديد النون وتاء الوحدة؛ أي: من طريقتهِ وعادته، سواءٌ فعله أو أمرَ أهله عليه: فهو من كلام البخاريِّ، قاله تفقُّهاً لتقييدِ الحديث، وليس من بقيَّةِ الحديث المرفوع كما قد يتوهَّم.
          ومرادهُ من النوح: ما كان من البكاءِ بصياحٍ وعويلٍ، وما يلتحقُ بذلك من نحو لطم خدٍّ أو شقِّ جيبٍ وغير ذلك من المنهيَّات.
          وما ذكرناهُ من ضبط: ((سنته)) هو ما للأكثرِ كالآتي قريباً، وضبطها بعضهم في الموضعين بسين مهملة مفتوحة فموحدتين؛ أي: من أجلهِ، ورجَّحَ هذا أبو الفضل بن ناصر، كما قال صاحب ((المطالع)) بل أنكرَ الأوَّلَ وقال: وأيُّ سنَّةٍ للميِّتِ؟.
          وقال الزين بن المنير: بل الأوَّل أولى لإشعارهِ بالغلبة بذلك، إذ لا يقال من سنَّته إلا عند غلبةِ ذلك عليه واشتهارهِ به؛ يعني: إذا كان الميِّتُ عوَّدَ أهله أن يبكوا عن من يفقدونه في حياتهِ وينوحوا عليه بما لا يجوزُ، فهو داخلٌ في الوعيدِ وإن لم يوص، فإن وصَّى فهو أشدُّ.
          قال في ((الفتح)): وكأنَّ البخاري ألهمَ هذا الخلاف، فأشارَ إلى ترجيحِ الأول حيث استشهدَ بالحديث الذي فيه: ((لأنَّهُ أوَّلُ من سَنَّ القَتْلَ)) فإنه أثبت ما استبعدهُ ابن ناصرٍ.
          وقال الزَّركشي: قوله: ((إذا كَانَ النَّوحُ من سنَّتِه)) هذا منه حملٌ للنَّهي على أنه يوصي بذلك فيعذب بفعل نفسه، وقيل: معناه: الحزنُ والتَّنكيلُ بسماع بكائهم كقوله: ((السَّفر قِطعَةٌ من العَذَابِ)) وقيل: الباء باء الحال، والتَّقديرُ: يُعذَّب عند بكاء أهله؛ أي: يحضر عذابهُ عند البكاءِ، وعلى هذا تكون قضيَّتهُ، انتهى.
          ورده في ((المصابيح)) بما مرَّ عن ابن المنير، وقال الكرماني: معناه: يحزنُ ببكاءِ أهله؛ أي: يسوءُه بكاؤهم، وقد روي: ((إنَّ أعمَالكُم تعرَضُ على أقرِبَائكُم من موتَاكُم، فإنْ رأوا خيْراً فرِحُوا بهِ، وإن رأَوا شيئاً كَرهُوهُ)) انتهى.
          ((وإنَّهم يستخبِرُونَ الميِّتَ إذا لقَاهُم: مَن ماتَ بعدهُمْ؟ حتَّى إن الرَّجلَ ليسألُ عن امرأتهِ أتزوَّجتْ أم لا؟)).
          قال ابن بطَّال _نقلاً عن الطَّبري_: رواه عوف عن خلَّاس بن عَمرو عن أبي هريرة.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): هذا تقييدٌ من المصنِّف لمطلقِ الحديث، وحمل منه لروايةِ ابن عبَّاس المقيدة بالبعضيةِ على رواية ابن عُمر المطلقة، كما ساقهُ في الباب عنهما، وتفسيرٌ منه للبعضِ المبهم في رواية ابن عباس: بأنَّه النَّوْح، ويؤيِّده: أنَّ المحذور بعض البكاءِ لا جميعه، انتهى.
          واعترضهُ العيني فقال: لا نسلم أنَّ التَّقييد من المصنِّف، بل هما حديثان: أحدهما: مطلقٌ، والآخر: مقيَّد، فترجم بالحديثِ المقيَّدِ تنبيهاً على أنَّ الحديث المطلق محمولٌ عليه؛ لأنَّ الدلائلَ دلت / على تخصيصِ العذابِ ببعض البكاءِ لا بكلِّهِ؛ لأنَّ البكاءَ بغير نوحٍ مباح، انتهى.
          وأقول: هو اعتراضٌ قويٌّ، وإن قال في ((الانتقاض)): من يصل في المكابرةِ إلى هذا الحدِّ يسقط معه الكلام؛ فإنَّ التقييد بقوله: ((من سنَّته)) ليس هو التقييدُ بالبعضيَّةِ في الحديث، انتهى.
          وكأنَّه يريد أن التقييدَ بقوله: ((إذا كان من سنَّتِه)) لا بالبعضيَّة، لكنه لا يفهم من عبارته في ((الفتح)) ذلك، وعلى تسليمِ أنه يفهم منها ذلك، فالتقييدُ به للحديثينِ لا لأحدهما، وإذا جرينا على ما يفهم من عبارتهِ، فالمحمولُ المطلقُ _وهو حديثُ ابن عمر_ على المقيَّد بالبعضيَّةِ _وهو حديثُ ابن عباس_ لا العكس الذي هو مفهومُ كلامه، فتدبَّره منصفاً.
          (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ}): من الوِقايةِ ({وَأَهْلِيكُمْ}): منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وحذفت النون للإضافة، وقرئ: ▬وأهلوكم↨ عطفاً على واو {قُوا} قال البيضاوي: فيكون: {أنْفُسَكُمْ} أنفس القبيلتينِ على تغليبِ المخاطبين، انتهى.
          ({نَاراً} [التحريم:6]): أي: عذابها، وذلك في أنفُسِكم: بترك المعاصي الشَّاملة للنوح وغيره، وفي أهليكم: بالنُّصح والتَّأديب لهم وزجرهم عن نحو النوح، فمن علمَ أن من عادة أهله فعل نحو النَّوحِ ولم ينههم عن ذلك، فما وقى نفسهُ ولا أهله من النار.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم): مما تقدم موصولاً في حديثِ ابن عمر في الجمعة: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) فمن ناحَ أو أقرَّ عليه أو أمر به فما رعى نفسه ولا أهله الذين هم من رعيَّتهِ.
          وتعقب كما في ((الفتح)) استدلالَ البخاريِّ بالآية والحديث على ما ذهبَ إليه من حمل حديث الباب الآتي عليه، وأقول: لا يظهر التعقُّب؛ فإنَّ الآية والحديث دالَّان على أنه يعذَّب بسببه.
          وحديثُ البابِ وإن كان مطلقاً، لكنه محمولٌ على هذا الخصوصِ كما أشارَ إليه في الترجمة فيتَّحد المراد من الكلِّ، فتدبر.
          وأما الجوابُ: بأنه لا مانعَ في سلوكِ طريق الجمعِ من تخصيصِ بعضِ العموماتِ، وتقييد بعض المطلقات بأدلَّةٍ أخرى، ففيه غموضٌ، فليتأمَّل.
          وقوله: (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ... إلخ): محترز قوله: ((إذَا كانَ النَّوحُ من سنته)) وذلك إذا لم يكن عنده شعورٌ بأنهم يفعلونَ ذلك أو نهاهم عنه، ولذا قالَ ابن المبارك: إذا كان ينهاهم في حياتهِ، ففعلوا شيئاً من ذلك بعد وفاتهِ لم يكن عليه شيءٌ.
          وجملة: (فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ♦: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]): ظاهرهُ: أنه جواب ((إذا)) وهو في التَّحقيق: علة جوابها المحذوف؛ أي: فلا يعذَّب عليه؛ لأنه كما قالتْ عائشة حاكيةً الآيةَ مستدلَّة بها لما أنكرت على عمر حديثه الآتي في الباب: من أنَّ الميِّت يعذَّب ببعضِ بكاءِ أهله عليه، ومعناها _كما قال الكرماني_: لا تحملُ نفس حاملةٌ حملَ أخرى؛ أي: لا تؤاخذُ نفسٌ بغير ذنبها، و((ما)) مصدرية والكاف للتشبيه؛ أي: كقول عائشة المذكور: (({وَلَا تَزِرُ...})) إلخ وفي قولها: (({وَلَا تَزِرُ...})) إلخ: اقتباسٌ من آية فاطر بخلافهِ في قول البُخاري.
          (وَهُوَ كَقَوْلِهِ): تعالى ({وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ}): أي: نفس مثقلةٌ ذنوباً، ففيه حذف التمييز، وثبت في نسخة والمناسب حذفه إذ ليس هو من التِّلاوة، بل هو من تفسيرِ مجاهدٍ، نقله المصنِّف عنه على ما قاله في ((الفتح)) وتبعوهُ، وثبتَ في بعض النُّسخ زيادة: ((يعني)): قبله، ومعنى الآية: وإن تدع نفسٌ أثقلَتْها أوزارُها أحداً من الأشخاصِ إلى أن يحملَ بعضَ ما عليها.
          ({لاَ يُحْمَلْ}): بالبناء للمفعول ({مِنْهُ}): أي: من وزرهِ ({شَيْءٌ} [فاطر:18]) وقال الكرماني: ومعنى الآية الثانية: لا غياثَ يومئذٍ لمن استغاث، لكنَّها ملازمةٌ التي قبلها، ولا ينافيها قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13] لأنَّها في الضالِّينَ المضلِّينَ؛ فإنهم يحملون أثقالَ أنفسهِم من الضَّلالِ، وأثقالَ إضلالهم للغيرِ، وكلُّ ذلك من أوزارهم ليس فيها شيءٌ من أوزار غيرهم، ومثلها قوله صلعم: ((فإن تولَّيتَ / فإنَّمَا علَيكَ إثمُ الأَرِيسيين)) وقوله: <وهو كقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةً}> إلى هنا ساقطٌ لغير أبي ذر.
          وقوله: (وَمَا يُرَخَّصُ): بالبناء للمفعول، معطوف على ((قول النَّبي)) أول الترجمة، أو عطفٌ على ((ما قالت)) لا على: ((كما قالت)) أي: فهو كما يرخَّص في عدمِ العذاب، و((ما)): موصولة أو مصدريَّة (مِنَ الْبُكَاءِ): بيان لـ((ما)) (فِي غَيْرِ نَوْحٍ): وهذا يفيدُ أن البكاء عامٌّ، والمحرَّمُ منه ما كان مع النَّوح، خلافاً لمن زعمَ أنه لا يسمَّى بكاءً إلا إذا اجتمع مع الدَّمع.
          وقال الخليل: من قصَّر البكاء ذهبَ به إلى معنى الحزن، ومن مدَّه ذهبَ به إلى معنى الصَّوت وهذا إشارة إلى حديثٍ ليس على شرطه، أخرجه ابن أبي شيبة والطَّبراني، وصحَّحه الحاكم عن أبي مسعودٍ الأنصاري، وقرظة بن كعب قالا فيه: إنَّه قد رخَّص لنا في البكاءِ عند المصيبة من غير نوحٍ.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم): ممَّا وصله المصنف في الدِّيات، وغيرها من حديثٍ لابن مسعود (لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً): نصب على الحال أو التمييز أو المفعول من أجله، وخرجَ من يقتل قصاصاً أو حداً أو كفراً، وشملت نفس الصَّغير والكبير والذكر وغيره (إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ): أي: لصلبهِ، وهو قابيل الذي قتلَ شقيقه هابيل ظُلماً وحسداً، لمَّا لم يُتقبَّل قربانه وتُقبِّل قربانُ هابيل، كما سيأتي بيان قصَّته _إن شاء الله تعالى_ في موضعها.
          (كِفْلٌ): بكسر الكاف؛ أي: نصيبٌ من الإثمِ، وقال الخليل: هو الضَّعف اسم ((كان)) مؤخَّراً (مِنْ دَمِهَا): متعلق بـ((كان)) أو ((كفل)) أو صفةً له، و((من)) للتعليل (وَذَلِكَ) أي: وسببُ الكِفْل عليه (لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ): أي: فعله ظلماً من أولادِ آدم، فلا يُنافي ما ورد: أنَّ الله تعالى خلقَ قبل آدم خلقاً أفسَدوا في الأرضِ وسفكَ بعضُهم دماء بعضٍ، فكذلك من كانت طريقته النوح على الميِّت يعذب؛ لأنه سنَّ النياحةَ في أهله، فيؤاخذُ على فعله الأول.
          والحاصلُ: أن غرضَ البخاري من هذه التَّرجمة المشتملة على ما ذكره: أن الإنسان لا يُعذَّب بفعل غيره إلا إذا كان له فيه تسبُّبٌ، فمن قال بتعذيبِ الإنسان بفعلِ غيره فمراده هذا، ومن نفاهُ فمراده ما إذا لم يكن له فيه تسبُّب أصلاً.
          وقال في ((التحفة)): لا يعذَّب الميِّت بشيءٍ من ذلك، وما وردَ من تعذيبهِ محمولٌ عند الجمهور على من أوصى به، وقيل: يعذَّبُ ما لم ينهَ عنه؛ لأنَّ سُكوته يُشعِر برضاهُ فيتأكد نهيُ الأهل عن ذلك خروجاً من هذا الخلاف، فإن في أحاديثَ صحيحةٍ ما يشهد له، بل للإطلاقِ، انتهى.
          واستشكل استدلالُ البخاري بهذا الحديث؛ فإنَّ ظاهره: أنَّ الوزر مختصٌّ بالبادئ دون من بعدَهُ، وعليه: فيختصُّ التعذيبُ بأول من سنَّ النوح.
          وأُجيب: بأنَّ غرضه: إنما هو الردُّ على من يزعم أنَّ الإنسان لا يعذَّب إلا بفعلهِ أو قوله، وهذا الحديثُ يفيد الرَّد عليه، ولا يضرُّنا أن الحديثَ لا دلالةَ له على أن غيرَ البادئِ يعذَّب؛ لأن لذلك أدلَّةً أخرى.
          وقال العينيُّ: وهذا الحديثُ من قواعدِ الإسلام موافقٌ لحديث: ((من سَنَّ سُنَّة حسنَةً)) الحديث في الخيرِ والشَّرِّ، فافهم.