الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب فضل من مات له ولد فاحتسب

          ░6▒ (بَابُ فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ): أطلق الولدَ فشملَ الذَّكر والأنثى والواحد والأكثر، كما سيأتي (فَاحْتَسَبَ): أي: <فاحتسبه>، وهي روايةٌ للأصيليِّ، وفسَّر الشُّرَّاح احتسبَ: بصبرَ راضياً بقضاءِ الله تعالى وقدرهِ راجياً فضلهُ وغفرانه.
          وأقول: الاحتسابُ في اللغة: الاعتداد.
          قال في ((الصحاح)) و((القاموس)): حَسَبْتُهُ أَحْسُبه _بالضم_ حَسْباً وحِسَاباً وحُسْباناً وحِسباناً _بالضم والكسر_ وحِسْبة وحِسَابة _بالكسر_ إذا عددته، واحتسبَ بكذا أجراً عند الله: اعتدَّهُ ينوي به وجه الله تعالى، اختبر ما عنده، والاسم: الحِسبة _بالكسر_ وهي الأجرُ، والجمع: الحِسْب، واحتَسَبَ فلان ابناً له أو بنتاً له: إذا ماتَ وهو كبيرٌ، وإن مات صغيراً قيل: افترطَهُ، انتهى.
          فما قالوه مجازٌ وتفسيرٌ باللازم؛ لأنَّ من اعتدَّ بشيءٍ ينوي به وجهَ الله تعالى يلزمهُ الصَّبر والرِّضا ورجاء الفضلِ.
          قال الزَّين بنُ المنير: عبَّر المصنِّف بالفضل ليجمعَ بين مختلفِ الأحاديثِ الثَّلاثةِ التي أوردها؛ لأن في الأوَّلِ: دخول الجنَّةِ، وفي الثَّاني: الحجبُ عن النَّارِ، وفي الثَّالث: تقييدُ الولوجِ بتحلَّةِ القَسَمِ، وفي كلٍّ منها ثبوت الفضلِ لمن وقعَ له ذلك، ويجمعُ بينها: بأن الدُّخولَ لا يستلزمُ الدُّخولَ من أوَّلِ وهلةٍ.
          والمرادُ بالولوج: الورودُ، وهو المرورُ كما يأتي، والمارُّ عليها على أقسامٍ: منهم من لا يسمع حَسِيسَها، وهم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، فلا تنافي مع هذا بين الولوجِ، فليتأمَّل.
          وليس في أحاديث البابِ الاحتساب، لكنه أشارَ به في التَّرجمةِ إلى ما رواه مسلمٌ عن أبي هُريرة ☺: ((لا يموتُ لإحدَاكُنَّ ثلاثَةٌ من الولَدِ فتحتَسِبُهُم إلَّا دخَلَتِ الجنَّةَ)) الحديث، وإلى ما رواهُ ابن حبَّان والنسائي عن أنسٍ رفعه: ((مَن احتسَبَ من صُلبِهِ ثَلاثَةً دخَلَ الجنَّةَ)).
          ولأحمد والطَّبراني عن عُقبة بن عامرٍ رفعه: ((مَن أَعطَى ثَلاثَةً من صُلبِهِ فاحتَسَبَهُم على اللهِ وجَبَتْ لهُ الجنَّةُ))، وفي ((الموطأ)) عن أبي النَّضر السُّلَميِّ رفعه: ((لا يَموتُ لأحَدٍ من المسلمِينَ ثلاثَةٌ من الوَلَدِ فيحتَسِبُهُم إلا كَانُوا لهُ جُنَّةً من النَّارِ)).
          وبه يعلمُ أن الأحاديث المطلقةَ محمولةٌ على المقيَّدةِ وذلك؛ لأنَّ الثَّوابَ لا يترتَّبُ إلا على النِّيَّة، فلا بدَّ من قيدِ الاحتساب سواءٌ كان الولدُ صغيراً أو كبيراً.
          وما اعترضَ به الإسماعيليُّ من أنه يقال في البالغ: احتسبَ، وفي الصَّغير: افترط، انتهى، فذاك أمرٌ لفظيٌّ، وبحسبِ الأصل، فلا ينافي أنه يستعملُ أحدَهُما موضعَ الآخرِ مجازاً، على أنَّ ابن دريدٍ وغيره قال: احتسبَ فلانٌ بكذا: طلبَ أجراً عند الله، وهذا عامٌّ في الصَّغيرِ والكبيرِ، وعلى العموم ظاهرُ الأحاديثِ فهي حجَّةٌ في صحَّةِ هذا الاستعمالِ.
          وبعضهم لم يشترط في حصولِ الثواب الواردِ في أحاديث البابِ وغيرها / الاحتساب، واستدلَّ بما في ((معجم الطبراني)) عن ابن مسعودٍ مرفوعاً: ((من ماتَ له ولدٌ ذكَرٌ أو أُنثَى، سلِم أو لم يُسلِم، رضيَ أو لم يرضَ، صبرَ أو لم يصْبِرْ، لم يكن له ثوابٌ إلَّا الجنَّةَ))، لكن إسناده ضعيفٌ، والصَّحيحُ: الأوَّل، بل قال العزُّ بن عبد السلام: لا يثابُ على نفسِ المصيبةِ، بل في الصَّبرِ عليها، قال: لأنَّها ليست من كسبِ العبد، لكنها تكفِّرُ الذنوب، إذ لا يشترطُ في المكفر أن يكون كسباً كالبلاءِ، قال: فالجزعُ لا يمنع التَّكفيرَ بل هو معصيةٌ أخرى.
          قال في ((التحفة)): ورد بنقل الإسنوي _كالروياني_ عن ((الأم)) ما يصرِّحُ بأن نفس المصيبة يثابُ عليها، ويؤيِّدُ الرَّدَّ خبر ((الصحيحين)): ((ما يُصِيبُ المسلِمَ من نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حَزَنٍ ولا أَذًى ولا غَمٍّ، حتَّى الشَّوكَة يُشاكُهَا إلا كَفَّرَ اللهُ بها من خَطَايَاهُ))، مع الحديثِ الصحيح: ((إذا مَرضَ العَبدُ أو سَافَرَ كتبَ الله له مثلَ ما كان يعمَلُهُ صَحِيحاً مُقِيماً))، فأفاد مجموعَ الحديثين: أنَّ في المصيبة _المرض وغيره_ جزاءين: أحدهما: لنفسِ المصيبة، والآخرُ: للصَّبرِ عليها، انتهى ملخَّصاً فتأمَّله.
          (وَقَالَ اللَّهُ): وللأربعة: <وقول الله> (╡): بالجر عطفاً على ((من مات)) أو بالرفع على الاستئناف ({وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]): وقال شيخُ الإسلام: ذكر الآية لمناسبةِ الصَّبر للاحتسابِ، والمصيبة للموت، وإن كانت أعمَّ منه وهو ككلام ((الفتح)) يقتضي أنَّ مرادَ المصنف أيضاً جميعَ أمورِ الصَّابرينَ ولا يتعيَّن ذلك، لا سيما وقد اقتصرَ على {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} والاحتساب: الصَّبرُ كما مر.
          قال البيضاويُّ: الخطابُ للرَّسُولِ، ولمن يتأتَّى منه البشارَةُ، والمبشَّرُ به محذوفٌ دلَّ عليه: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} [البقرة:157] الآية وليس الصَّبرُ بالاسترجاعِ باللِّسانِ، بل وبالقَلبِ بأن يتصوَّرَ ما خُلِق لأجلهِ وأنه راجعٌ إلى ربِّه، ويتذكَّرَ نعمَ الله عليه ليرى ما أبقَى عليه أضعافَ ما استردَّهُ منه، فيهوِّنَ على نفسه ويستلزمَ له.
          والمصيبةُ تعمُّ ما يصيبُ الإنسانَ من مكروهٍ لقوله عليه السلام: ((كلُّ شيءٍ يُؤذِي المؤمِنَ فهوَ له مُصيبَةٌ))، وعن النَّبيِّ صلعم: ((من استَرجَعَ عندَ المصيبَة جبرَ الله مُصيبَتَهُ، وأحسَنَ عُقبَاهُ، وجعَلَ له خَلَفاً صالحاً يَرضَاهُ))، انتهى.
          وقد وصفهُم الله تعالى بقولِهِ: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [البقرة:156] الآية، ولفظ المصيبةِ عامٌّ يشمل المصيبة بالولدِ وغيره.
          قال القسطلاني: وساقَ المؤلِّفُ هذه الآية تأكيداً لقوله: ((فاحتَسَب)) لأنَّ الاحتسابَ لا يكونُ إلا بالصَّبرِ، انتهى.