نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: قم يا فلان فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن

          4203- (حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع، قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو: ابنُ أبي حمزة (عَنِ الزُّهْرِيِّ) أنَّه (قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: شَهِدْنَا خَيْبَرَ) أراد جنسهُ من المسلمين؛ لأنَّ الثابت أنَّه إنما جاء بعد أن فُتحت خيبر، ووقع عند الواقدي أنَّه قدم بعد فتح معظم خيبر فحضر فتح آخرها، لكن مضى في الجهاد [خ¦2827] من طريق عَنْبسة بن سعيد عن أبي هريرة ☺ قال: أتيتُ رسول الله صلعم وهو بخيبر بعدما افتتحَها فقلتُ: يا رسول الله! أسهمْ لي.
          وسيأتي البحث في ذلك في حديث آخر لأبي هريرة ☺ في آخر هذا الباب [خ¦4234].
          (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم لِرَجُلٍ) أي: عن رجل، واللام قد تأتي بمعنى «عن» مثل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [العنكبوت:12]، ويحتمل أن يكون بمعنى (في)؛ أي: في شأنه. أو: سببية، ومنه قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] (مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِي الإِسْلاَمَ: هذا مِنْ أهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا حَضَرَ / الْقِتَالُ) بالرفع والنصب.
          (قَاتَلَ الرَّجُلُ أَشَدَّ الْقِتَالِ حَتَّى كَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحَةُ) ويُروى: <حتَّى كثرت به جراحاته> (فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ يَرْتَابُ) أي: يشك في صدق الرَّسول وحقيَّة (1) الإسلام، كذا قال الكرمانيُّ، وفي رواية مَعمر في الجهاد: ((فكاد بعضُ الناس أن يرتابَ)) ففيه دخول إن على خبر كادَ، وهو جائز مع قلة (فَوَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحَةِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ) أي: أمالها(2) .
          (إِلَى كِنَانَتِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا أَسْهُمًا فَنَحَرَ بِهَا نَفْسَهُ) وقد سبق فيما مرَّ أنَّه لا منافاةَ بين قوله هنا: فنحرَ بها نفسه، وفيما مرَّ أنَّه قتل نفسه بسيفهِ (فَاشْتَدَّ) أي: أسرعَ في الجري (رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ، انْتَحَرَ فُلاَنٌ) أي: نحر نفسه (فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ: قُمْ يَا فُلاَنُ) هو بلال ☺، كما وقع صريحًا في الجهاد [خ¦3062]، وسيأتي أيضًا في كتاب القدر [خ¦6606] (فَأَذِّنْ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ) وفي رواية الكُشميهني: <لَيُؤيِّدُ>. وقال النَّووي: يجوز في ((إنَّ)) فتح الهمزة وكسرها (الدين بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) يُحتمل أن تكون اللام للجنس فيعم كلَّ فاجرٍ أيَّد الإسلام وساعدَه بوجه من الوجوه. ويُحتمل أن تكون للعهدِ وهو الشَّخص المعين؛ أي: قُزْمان المذكور في الحديث السابق [خ¦4202]، ولكنَّه إنما يكون للعهد إذا كان الحديثان متَّحدين في الأصل، والظَّاهر التَّعدد، والله تعالى أعلم.
          ومطابقة الحديثين للترجمة ظاهرٌ.
          (تَابَعَهُ) أي: تابع شُعيبًا (مَعْمَرٌ) هو ابنُ راشد في روايته (عَنِ الزُّهْرِيِّ) بهذا الإسناد، وهو موصولٌ عند المصنف في أواخر الجهاد مقرونًا برواية شعيب عن الزُّهري [خ¦3062].
          4204- (وَقَالَ شَبِيبٌ) بفتح الشين المعجمة وكسر الموحدة الأولى، هو: ابنُ سعيد، وقد مرَّ في الاستقراض [خ¦2389] (عَنْ يُونُسَ) أي: ابن يزيد (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم بن شهاب الزُّهري، أنَّه قال: (أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم / حُنِينًا) يريد أن يونس خالف مَعْمرًا وشعيبًا، فذكر بدل (خيبر) لفظ (حُنين)، وهذا تعليقٌ وصله النَّسائي عن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني عن أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس مقتصرًا على طرف من الحديث.
          وأورده الذُّهلي في «الزُّهريات»، ويعقوب بن سفيان في «تاريخه» كلاهما عن أحمد بن شبيب عن أبيه بتمامه، وأحمد من شيوخ البخاري، وقد أخرج عنه غير هذا، وقد وافق يونس مَعمرًا وشعيبًا في الإسناد، لكن زاد فيه مع سعيد بن المسيَّب عبد الرَّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، وساق الحديث عنهما عن أبي هريرة ☺، وقد أغربَ الكرمانيُّ حيث قال: وفي بعضها: <حُنين> بالنون، وهو تصحيفٌ.
          (وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ) هو: عبدُ الله المروزي (عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ) هو: ابنُ المسيَّب (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) يعني: أنَّ ابن المبارك وافق شبيبًا في لفظ (حنُين)، وخالفه في الإسناد وأرسل الحديث، وطريق ابن المبارك هذه وصلها المصنِّف في الجهاد [خ¦3062] (3) وليس فيه تعيين الغزوة (تَابَعَهُ) أي: تابع ابن المبارك (صَالِحٌ) أي: ابن كيسان (عَنِ الزُّهْرِيِّ) وقد روى البخاري هذه المتابعة في «تاريخه»: قال: قال لي عبد العزيز الأويسي عن إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب: أخبرني عبد الرَّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أنَّ بعض من شهد مع النَّبي صلعم قال: إنَّ النَّبي صلعم قال لرجل معه: ((هذا من أهل النَّار)) الحديث.
          قال الحافظُ العسقلاني: فظهرَ من هذا: أنَّ المراد بالمتابعة أنَّ صالحًا تابع رواية ابن المبارك عن يونس في ترك ذكر اسم الغزوة، لا في بقية المتن، ولا في الإسناد، وتعقَّبه العيني بأنَّا لا نُسلِّم ذلك؛ لأنَّ ابن المبارك تابع شبيبًا في لفظ (حُنين)، وصالح بن كَيسان تابعَ ابن المبارك، والظَّاهر أنَّ المتابعة أعمُّ من أن تكون في ذكر لفظ (حنين) وفي غيره من المتن والإسناد، ولا يلزمُ من عدم ذكر لفظ حنين في رواية البخاري في «تاريخه» أن لا يكون المراد من قوله: «ممَّن شهد مع النَّبي صلعم » شهودَهُ حنينًا لاحتمالِ طي بعضِ الرُّواة ذكره.
          وقد رواه يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح عن الزُّهري فقال: عن عبد الرَّحمن بن المسيَّب مرسلًا وَوَهم فيه، وكأنَّه أراد أن يقول: عن عبد الرَّحمن بن عبد الله بن كعب وسعيد بن المسيَّب فذهل.
          (وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ) بضم الزاي وفتح الموحدة / وسكون التحتية وبالدال المهملة، هو محمدُ بن الوليد بن عامر، أبو الهذيل الشَّامي الحمصي (أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ كَعْبٍ) هو: عبدُ الرَّحمن بن عبد الله بن كعب (أَخْبَرَهُ: أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ) بالتَّصغير (ابْنَ كَعْبٍ) ويُروى مكبرًا: <عبد الله بن كعب> ولعلَّه هو الصَّواب (قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ صلعم خَيْبَرَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أي: ابن عمر بن الخطاب ♥ ، وفي رواية النَّسفي: <عبد الله بن عبد الله>، قال الغسَّاني: وأمَّا عبد الله بن عبد الله فلا أدري من هو، ولعلَّه وهم (وَسَعِيدٌ) هو ابن المسيَّب (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) قال الحافظُ العسقلاني: هكذا أورده البخاري طريق الزُّبيدي هذه معلَّقة، وأجحفَ فيها في الاختصار، فإنَّه لم يَفْصِل بين رواية الزُّهري الموصولة عن عبد الرَّحمن، وبين روايته المرسلة عن عبيد الله وسعيد.
          وقد أوضحَ ذلك في «التاريخ»، وكذلك أبو نُعيم في «المستخرج»، والذُّهلي في «الزُّهريات»، فأخرجوه من طريق عبد الله بن سالم الحمصي عن الزُّبيدي، فساقَ الحديث الموصول بالقصَّة، ثمَّ قال بعده: قال الزُّبيدي: قال الزُّهري: وأخبرني عبيد الله بن عبد الله وسعيد بن المسيَّب أنَّ رسول الله صلعم قال: ((يا بلال! قمْ فأذِّن أنَّه لا يدخل الجنَّة إلَّا مؤمنٌ، والله يؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر)) هذا سياق البخاري. وفي سياق الذُّهلي: قال الزُّهري: وأخبرني عبد الرَّحمن بن عبد الله نبَّه عليه أبو عليٍّ الجياني.
          هذا وقد اقتضى صنيع البخاري ترجيحَ رواية شُعيب ومَعمر، وأشار إلى أن بقيَّة الرِّوايات مُحتملة، وهذه عادته في الرِّوايات المختلفة إذا رَجَح بعضها عنده اعتمدَه، وأشار إلى البقيَّة، وأن ذلك لا يستلزم القدح في الرِّواية الرَّاجحة؛ لأنَّ شرط الاضطراب أن يتساوى وجوه الاختلاف فلا يرجح شيءٌ منها. وكذا رجَّح الذُّهلي رواية / شعيب ومَعمر قال: ولا تُدفع رواية الآخرين؛ لأن الزُّهري كان يقع له الحديث من عدِّة طُرق فيحمله أصحابه عنه بحسبِ ذلك. نعم ساق من طريق موسى بن عقبة وابن أخي الزُّهري عن الزُّهري موافقة الزُّبيدي على إرسال آخر الحديث.
          قال المهلب: هذا الرجل ممن أعلمنا النَّبيُّ صلعم أنَّه نفذَ عليه الوعيد من الفسَّاق، ولا يلزم منه أنَّ كلَّ من قتل نفسه يُقضى عليه بالنَّار.
          وقال ابنُ التِّين: يُحتمل أن يكون قوله: ((هو من أهل النَّار))؛ أي: إن لم يغفر الله له، ويُحتملُ أن يكون حين أصابتْه الجراحةُ ارتابَ وشكَّ في الإيمان، أو استحلَّ قتل نفسهِ فماتَ كافرًا، ويؤيِّده قوله صلعم في بقية الحديث: ((لا يدخلُ الجنَّة إلَّا نفس مسلمة)) وبذلك جزمَ ابن المنيَّر.
          قال الحافظُ العسقلاني: والَّذي يظهر أنَّ المراد بالفاجر أعمُّ من أن يكون كافرًا أو فاسقًا، ولا يُعارضه قولُه صلعم : ((إنَّا لا نستعين بمشركٍ)) لأنَّه محمولٌ على من كان يُظهرُ الكفر أو هو منسوخٌ.
          وفي الحديث إخباره صلعم بالمغيَّبات وذلك من معجزاتهِ الظَّاهرة، وفيه جواز إعلام الرَّجل الصَّالح بفضيلة تكون فيه والجهر بها.


[1] في الكواكب الدراي (أحقية)، وفي العمدة (حقيقة).
[2] بياض صحيح.
[3] ولم أره موصولًا هناك.