نجاح القاري لصحيح البخاري

باب حجة الوداع

          ░77▒ (بابٌ حَجَّةُ الْوَدَاعِ) يجوز فتح الحاء وكسرها، وكذلك كسر الواو وفتحها، وإنما سُمِّيت حجَّة الوَداع لأنَّ النَّبي صلعم وَدّع النَّاس فيها، ولم يحج بعدها، وسُمِّيت أيضًا حجَّة الإسلام لأنَّه صلعم لم يحج من المدينة غيرها، ولكن حجَّ قبل الهجرة مرَّات قبل النُّبوة وبعدها، وقد قيل: إنَّ فريضة الحجِّ نزلتْ عامئذٍ وقيل: سنة تسع، وقيل: قبل الهجرة، وهو غريبٌ.
          وسُمِّيت حجَّة البلاغ أيضًا لأنَّه صلعم بلّغ النَّاس شرعَ الله قولًا وفعلًا في ذلك الحجِّ، ولم يكن بقيَ من دعائم الإسلام وقواعده إلَّا وقد بيَّنه صلعم ، وسمِّيت: حجَّة التَّمام والكمال، وحجَّة الوداع أشهر.
          وقد أخرج مسلم وغيره أنَّ النَّبي صلعم مكث تسع سنين؛ أي: منذ قدم المدينة لم يحجَّ، ثمَّ أذّن في النَّاس في العاشرة أنَّ رسول الله صلعم حاج فقدمَ المدينة بشرٌ كثيرٌ كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلعم ، الحديث.
          ووقع في حديث أبي سعيدٍ الخدري ☺ عند... (1) ما يوهم أنَّه صلعم حجَّ قبل أن يُهاجر غير حجَّة الوداع ولفظه... (2)، وعند الترمذي / من حديث جابر ☺: حجَّ قبل أن يُهاجر ثلاث حُجج، وعن ابن عبَّاس ☻ مثله، أخرجه ابنُ ماجه والحاكم.
          قال الحافظُ العسقلاني: وهو مبنيٌّ على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحجِّ فإنهم قدموا أولًا فتواعدوا، ثمَّ قدموا ثانيًا فبايعوا البيعة الأولى، ثمَّ قدموا ثالثًا فبايعوا البيعة الثانية، كما تقدَّم بيانه في أول الهجرة [خ¦3892]، وهذا لا يقتضي نفي الحجِّ قبل ذلك.
          وقد أخرج الحاكم بسند صحيحٍ إلى الثَّوري: أنَّ النَّبي صلعم حجَّ قبل أن يُهاجرَ حججًا. وقال ابنُ الجوزي: حجَّ حججًا لا يُعرف عددها، وقال ابنُ الأثير في «النهاية»: كان يحجُّ كلَّ سنة قبل أن يهاجر، وفي حديث ابن عبَّاس ☻ أن خروجه صلعم من المدينة كان لخمسٍ بقين من ذي القعدة، أخرجه المصنِّف في الحجِّ [خ¦1545]، وأخرجه هو ومسلم من حديث عائشة ♦ مثله.
          وجزم ابنُ حزم بأنَّ خروجه كان يوم الخميس، وفيه نظرٌ لأنَّ أوَّل ذي الحجَّة كان يوم الخميس قطعًا لما ثبت وتواتر أنَّ وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، فتعيَّن أنَّ أول الشَّهر يوم الخميس فلا يصحُّ أن يكون خروجه يوم الخميس، بل ظاهرُ الخبر أن يكون يوم الجمعة.
          لكن ثبتَ في «الصحيحين» عن أنس ☺: صلَّينا الظُّهر مع النَّبي صلعم بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحُليفة ركعتين، فدلَّ على أنَّ خروجهم لم يكن يوم الجمعة، فما بقيَ إلَّا أن يكون خروجهم يوم السَّبت، ويُحملُ قول من قال: لخمسٍ بقين؛ أي: إن كان الشَّهر ثلاثين فاتَّفق أن جاء تسعًا وعشرين، فيكون يوم الخميس أوَّل ذي الحجة بعد مضي أربع ليال من ذي القعدة، وبهذا تتفق الأخبار، هكذا جمع الحافظ عماد الدِّين بن كثير بين الرِّوايات.
          وقوي هذا الجمع بقول جابر ☺: إنَّه خرجَ لخمس بقين من ذي القعدة أو أربع، وكان دخوله صلعم مكة صبح رابعة ذي الحجَّة، كما ثبت في حديث عائشة ♦، وذلك يوم الأحد، وهذا يُؤيِّد أنَّ خروجه من المدينة كان يوم السبت، كما تقدَّم، فيكون مُكثه في الطَّريق ثمانٍ ليال، وهي المسافة الوسطى، والله تعالى أعلم.


[1] بياض في الأصل.
[2] بياض في الأصل.