نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أن رسول الله نهى عن متعة النساء يوم خيبر

          4216- (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ) بالقاف والزاي والعين المهملة المفتوحات، قال: (حَدَّثَنَا مَالِكٌ) الإمام (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ ☺: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ) نكاحُ المُتعةِ هو النِّكاح الَّذي بلفظ التَّمتع إلى وقت معيَّن نحو أن يقولَ لامرأة: أتمتَّع بك كذا مدَّة بكذا من المال، وهو الَّذي يُقال له: النِّكاح المؤقَّت.
          قال ابنُ عبد البر في «التَّهميد»: أجمعوا أنَّ المتعة نكاح لا إشهاد فيه، وأنَّه نكاح إلى أجل يقعُ فيه الفرقة بلا طلاق / ولا ميراث بينهما، قال: وهذا ليس حكم الزَّوجات في كتاب الله ولا سنة رسوله انتهى.
          وقال القاضي عياض في «الإكمال»: اتَّفق العلماء على أنَّ هذه المتعة كانت نكاحًا إلى أجل لا ميراث فيه، وفراقها يحصلُ بانقضاء الأجل من غير طلاقٍ، وإذا تقرَّر أنَّ نكاح المتعة هو المؤقَّت، فلو أقته بمدَّة تُعلم بمقتضى العادة أنَّهما لا يعيشان إلى انقضائها كمائتي سنة ونحوها فهل يبطلُ لوجود التَّأقيت أو يصح؛ لأنَّه زال ما كان يخشى من انقطاعِ النِّكاح بغير طلاق ومن عدم الميراث بين الزَّوجين؟ أطلق الجمهورُ عدم الصِّحَّة.
          فإن قيل: هل ذهب أحدٌ إلى جوازها؟ فالجواب: أنَّه ادعى فيه غير واحد من العلماء الإجماع.
          قال الخطَّابي في «المعالم»: كان ذلك مباحًا في صدر الإسلام، ثمَّ حُرم فلم يبق فيه اليوم خلاف بين الأئمة إلَّا شيئًا ذهب إليه بعض الرَّوافض، قال: وكان ابن عبَّاس ☻ يتأول في إباحته للمضطر بطول العُزبة وقلة اليسار والجدة، ثمَّ توقَّف عنه وأمسكَ عن الفتوى فيه.
          وقال أبو بكر الحازمي: يُروى عن ابن جُريج جوازه. وقال المازري في «المعلم»: تقرَّر الإجماع على منعه، ولم يُخالف فيه إلَّا طائفة من المبتدعة.
          وقال صاحب «المُفهم»: أجمعَ السَّلف والخلف على تحريمها إلَّا ما رُوي عن ابن عبَّاس ☻ ، ورُوي عنه: أنَّه رجع، وإلَّا الرافضة.
          وحكى أبو عمر الخلاف القديم فيه فقال: وأمَّا الصَّحابة ♥ فإنهم اختلفوا في نكاحِ المتعة، فذهب ابن عبَّاس ☻ إلى إجازتهَا وتحليلها لا خلافَ عنه في ذلك، وعليه أكثر أصحابه منهم عطاء بنُ أبي رباح وسعيد بن جُبير وطاوس، قال: ورُوي أيضًا تحليلها وإجازتها عن أبي سعيد الخدريِّ وجابر بن عبد الله ♥ ، قال جابر ☺: تمتَّعنا إلى نصف من خلافة عمر ☺ حتَّى نهى عمر ☺ النَّاس عنها في شأن عَمرو بن حُريث.
          ونكاحُ المتعة قبل التَّحريم هل كان مطلقًا أو مقيَّدًا بالحاجة وبالأسفار؟
          قال الطَّحاوي: كلُّ هؤلاء الَّذين رووا / عن رسول الله صلعم إطلاقها أخبروا أنَّها كانت في سفرٍ، وليس أحدٌ منهم يُخبر أنَّها كانت في حضرٍ، وفي حديث ابن مسعود ☺ أنَّه أباحها لهم في الغزو.
          وقال الحازميُّ: ولم يبلغنا أن النَّبي صلعم أباحه لهم وهم في بيوتهم. وقال القاضي عياض: قد ذُكر في حديث ابن عمر ☻ أنَّها كانت رُخصة في أوَّل الإسلام لمن اضطر إليها كالميتة. وإذا تقرر أنَّ نكاح المتعة غير صحيح فهل يُحدُّ من وطىءِ في نكاح متعة؟ فأكثر أصحاب مالك قالوا: لا يُحدُّ لشبهة العقد، وللخلاف المتقدِّم فيه، وأنَّه ليس من تحريم القرآن، ولكنه يُعاقب عقوبة شديدة.
          قال صاحب «الإكمال»: هذا هو المروي عن مالك، وأصل هذا عند بعض شيوخنا التفريق في الحدِّ بين ما حرَّمته السُّنة وبين ما حرَّمه القرآن، وأيضًا فالخلافُ بين الأصوليين: هل يصحُّ الإجماع على أحد القولين بعد الخلاف أو لا ينعقد، وحكم الخلاف باقٍ؟ قال: وهذا مذهب القاضي أبي بكر.
          وقال الرَّافعي ما ملخصه: إن صحَّ رجوع ابن عبَّاس ☻ وجب الحدُّ لحصول الإجماع، وإن لم يصح رجوعه فيُبنى على أنَّه لو اختلف أهل عصرٍ في مسألة، ثمَّ اتفق من بعدهم على أحد القولين فيها هل يصير ذلك مجمعًا عليها؟ فيه وجهان أصوليان، إن قلنا: نعم وجب الحدُّ، وإلَّا فلا كالوطء في سائر الأنكحة المختلف فيها، قال: وهو الأصحُّ، وكذا صحَّحه النَّووي، والله تعالى أعلم.
          وقوله (يوم خيبر): في لفظ التِّرمذي: ((زمن خيبر))، وقال ابنُ عبد البر: وذُكِر النَّهي عن المتعة يوم خيبر غلطٌ، وقال السُّهيلي: النَّهي عن المتعة يوم خيبر لا يعرفه أحدٌ من أهل السِّير ورواة الأثر.
          وقد روى الشَّافعي عن مالك بإسناده عن علي ☺: أنَّ رسول الله صلعم نهى يوم خيبر أكل لحوم الحُمُر الأهلية، لم يزدْ على ذلك، وسكتَ عن قصَّة المتعة لما علم فيها من الاختلاف. قال العينيُّ: / قد اختلف في وقت النهي عن نكاح المتعة هل كان زمن خيبر، أو في زمن الفتح أو في غزوة أوطاس، وهي في عام الفتح، أو في غزوة تبوك، أو في حجَّة الوداع، أو في عُمرة القضاء؟. ففي رواية مالك ومن تابعه في حديث عليٍّ ☺: أنَّ ذلك زمن خيبر، كما في حديث الباب.
          وكذلك في حديث ابن عمر ☻ رواه البيهقيُّ من رواية ابنِ شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله أنَّ رجلًا سألَ عبد الله بن عمر ☻ عن المتعة، فقال: حرامٌ، قال: إنَّ فلانًا يقول بها؟ فقال: والله لقد علم أنَّ رسول الله صلعم حرَّمها يوم خيبر وما كنَّا مسافحين. وفي حديث سَبْرة بن معبد الجُهَني عند مسلم: أنَّه أذن فيها في فتح مكَّة، وفيه: فلم أخرج حتَّى حرمها. وفي حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم أيضًا أنَّه رخَّص فيها عام أوطاس ثلاثة أيام ثمَّ نهى عنها. وفي حديث سَبْرة عن أبي داود: أنَّه نهى عنها في حجَّة الوداع.
          وفي بعضِ طُرُق الحديث عن عليٍّ ☺: أنَّ ذلك في غزوة تبوك. ذكره ابنُ عبد البر، وكذلك في حديث أبي هريرة ☺: أنَّ ذلك كان في غزوة تبوك، رواه الطَّحَّاوي والبيهقي. وكذلك في حديث جابر ☺ رواه الحازميُّ في كتاب «الناسخ والمنسوخ».
          وفيه يقول جابر بن عبد الله ☻ : خرجنَا مع النَّبي صلعم إلى غزوة تبوك حتَّى إذا كنَّا عند العقبة ممَّا يلي الشَّام جئنَ نسوة فذكرنا تمتُّعنا وهنَّ يجلن، أو قال: يطُفْنَ في رحالنا، فجاءنا رسولُ الله صلعم فنظر إليهنَّ، فقال: ((من هؤلاء النِّسوة؟)) فقلنا: يا رسولَ الله! تمتَّعنا منهنَّ، قال: فغضبَ رسول الله صلعم حتَّى احمرَّت وجنتاهُ، فقام فينا خطيبًا، فحمدَ الله وأثنى عليه، ثمَّ نهى عن المتعةِ، فتوادعنا يومئذٍ الرِّجال والنِّساء ولم نعد، ولا نعود لها أبدًا فسمِّيت يومئذٍ ثنية الوداع.
          وذكر عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن الحسن، قال: ما حلَّت المتعة / إلَّا ثلاثًا في عمرة القضاء، وما حلَّت قبلها ولا بعدها.
          وقال ابنُ عبد البر: وهذا الباب فيه اختلافٌ شديدٌ، وفيه أحاديث كثيرة لم نكتبها. وقال العينيُّ: الجمعُ بين هذه الأحاديث وترجيح بعضِها عند عدم إمكان الجمع على وجوهٍ ذكرها العلماء، فقال المازريِّ: ليس هذا تناقضًا؛ لأنَّه يصحُّ أن ينهى عنها في زمن، ثمَّ ينهى عنها في زمنٍ آخر توكيدًا أو ليشتهر النَّهي، ويسمعه من لم يسمعْه أولًا، فسمع بعض الرُّواة النَّهي في زمن، وسمعه آخرون في زمن آخر، فنقل كلٌّ منهم ما سمعَه، وأضافه إلى زمنِ سماعه.
          وقال القاضي عياض: يحتمل أنَّه صلعم أباحها لهم للضرورة بعد التحريم، ثمَّ حرمها تحريمًا مؤبدًا، فيكون حرمها يوم خيبر، وفي عمرة القضاء، ثمَّ أباحها يوم الفتح للضرورة، ثمَّ حرمها يوم الفتح أيضًا تحريمًا مؤبدًا.
          وقال النَّووي: الصَّواب المختار أنَّ التَّحريم والإباحة كانا مرَّتين، وكانت حلالًا قبل خيبر، ثمَّ حُرِّمت يوم خيبر، ثمَّ أُبيحت يوم فتح مكَّة وهو يوم أوطاس لاتصالهما، ثمَّ حُرِّمت يومئذٍ بعد ثلاثة أيَّام تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، واستمرَّ التَّحريم. وذكر بعضُهم أنَّه لا يعرف [شيء] ثمَّ نُسخ مرَّتين إلَّا نكاح المتعة. وزاد بعضُهم عليه أمر تحويل القبلة أنَّه وقع مرتين. وزاد أبو بكر ابن العربي ثالثًا فقال: نسخ الله القبلة مرَّتين، ونسخ نكاح المتعة مرَّتين، وأباح أكل لحوم الحمر الأهلية مرَّتين. وزاد أبو العبَّاس العوفي رابعًا وهو الوضوء ممَّا مسَّته النَّار على ما قاله ابنُ شهابٍ. ورُوي مثله عن عائشةَ ♦. وزاد بعضُهم الكلام في الصَّلاة نسخ مرَّتين، حكاه القاضي عياض في «الإكمال». وكذلك المخابرةُ على قول ابنِ الأعرابي. وفي «التوضيح»: هذا أغربُ ما وقع في الشَّريعة، أُبيح ثمَّ نهى عنه يوم خيبر، ثمَّ أُبيح في عمرة القضاء وأوائل الفتح، ثمَّ نهى عنه، ثمَّ أُبيح ثمَّ نهى عنه إلى يوم القيامة.
          (وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ) وفي رواية / أبي ذرٍّ عن السَّرخسي والمستملي: <حُمُر الأنسية> بغير ألف ولام في (الحُمُر)، قيل: إنَّ في الحديث تقديمًا وتأخيرًا، والصَّواب نهى (يوم خيبر) عن لحوم الحُمُر الإنسيَّة وعن متعة النِّساء، وليس يوم خيبر ظرفًا لمتعة النِّساء؛ لأنَّه لم يقعْ في غزوة خيبر تمتع بالنِّساء، فليتأمل.
          ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: «يوم خيبر». وقد أخرجَه البخاريُّ في الذَّبائح [خ¦5523]، والنِّكاح [خ¦5115]، وترك الحيل أيضًا [خ¦6961]، وأخرجه مسلم في النِّكاح، كذا التِّرمذي فيه، وأخرجه النَّسائي في الصَّيد، وابن ماجه في النِّكاح.