نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قصة غزوة بدر

          ░3▒ (قِصَّةُ غَزْوَةِ بَدْرٍ) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية كريمة: <باب قصة غزوة بدر> بزيادة لفظة: «باب» (وَقَوْلُ اللَّهِ ╡: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إلى: {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} [آل عمران:123-127]) كذا وقع لأبي ذرٍّ، وللأَصيلي نحوه، لكنه قال بعد قوله: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}: <إلى قوله: {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}>. وسيقت الآيات كلها في رواية كريمة هكذا: <{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ}> وهذا تذكيرٌ ببعض ما أفادهم التوكل كأنَّه قيل: أيُّها المؤمنون توكلوا على الله، ولا تتوكَّلوا على غيره؛ لينصركُم كما نصركُم <{بِبَدْرٍ}> مع قلَّة عددكُم وقلَّة الأسلحة والمراكب؛ لأنَّهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ستة وسبعون من المهاجرين، وبقيَّتهم من الأنصار، وما كان فيهم إلَّا فرسٌ واحد لمقداد بن الأسود على اختلافٍ في ذلك كما سيجيء إن شاء الله تعالى [خ¦3956]، ومع كثرة عدد الكفَّار، فإنهم كانوا تسعمائة وخمسين رجلاً على قولٍ، ومعهم الأسلحة والمراكب والعدة الكاملة.
          والحاصلُ أنَّ الله تعالى ذكر هذه الآيات في معرض المنَّة حيث أعزَّ الإسلام وأهله يوم بدرٍ مع قلَّة عدد المسلمين وعُدَدهم، وكثرة العدوِّ وعُدَدهم، فأعزَّ الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبيَّض وجه نبيَّه وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله. ولهذا قال ممتنًّا على عباده المؤمنين وحزبه المفلحين المتقين: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}، وقد وقعت غزوةُ بدرٍ يوم الاثنين صبيحة سبع عشرة من رمضان سنة اثنتين من الهجرة، فنصر الله المسلمين على المشركين ببركة صبرهِم وتوكلهم على الله تعالى.
          فالآية تقريرٌ لأمر التوكل، وتحريضٌ عليه، وتنبيهٌ على أنَّ العامل يجب أن لا يتوسَّل إلى تحصيلِ مطلوبه إلَّا بالتَّوكل على الله والاستعانة به. قال الشَّعبي: بدر بئر لرجل يسمَّى: بدراً، وهو بدر بن الحارث بن مخلد بن النَّضر بن كنانة. وقيل: سُمِّيت بدراً؛ لاستدارتها كالبدر. وقيل: لصفائها ورؤية البدر فيها. وقال السُّهيلي: احتفرها رجلٌ من بني غفَار اسمه: بدر بن كلدة.
          وقال الواقدي: ذكرت هذا لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح، فأنكراه وقالا: لأيِّ شيءٍ سمِّيت الصَّفراء؟ ولأيِّ شيءٍ سمِّي الجار؟ إنما هو اسمُ الموضع. /
          قال: وذكرتُ ذلك ليحيى بن النُّعمان الغفاري فقال: سمعتُ شيوخنا من غفار يقولون: هو ماؤنا ومنزلنا، وما ملكه أحدٌ قطُّ اسمه بدرٌ، وما هو من بلاد جُهينة، وإنما هو من بلاد غفار. قال الواقديُّ: وهو المعروف عندنا. وفي «الإكليل»: بدرُ موضعٌ بأرض العرب يُقال له: الأثيل بقرب ينبع، والصَّفراء والجار والجُحفة، وهو موسم من مواسم العرب، ومَجْمَع من مجامعهم في الجاهلية، وبها قُلب وآبار ومياه تُستعذب.
          وعن الزُّهري: كان بدر متجراً يُؤتى في كلِّ عام، وقال البكري: هي على مائة وعشرين فرسخاً من المدينة، ومنها إلى الجار ستة عشر ميلاً، وبه عينان جاريتان عليهما الموز والنَّخل والعنب.
          هذا وقال الحافظُ العسقلاني: هي قريةٌ مشهورةٌ نُسِبت إلى بدر بن مخلد بن النَّضر بن كنانة كان نزلها، ويقال: بدر بن الحارث.
          <{وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}> حال من الضَّمير وهو جمع ذليل جمعُ قلَّة، وجمع الكثرة: أذلَّاء، وجيء بجمع القلَّة؛ ليدل على قلَّتهم مع ذلَّتهم؛ لما كان بهم من ضعفِ الحال، وقلَّة السِّلاح والمال والمركوب، وعدد العدو كثير مع كمال العدَّة. وقال الحافظ العسقلانيُّ: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: قليلون بالنَّسبة إلى من لقيهم من المشركين، ومن جهة أنهم كانوا مشاة إلَّا القليل منهم، ومن جهة أنَّهم كانوا عارين من السِّلاح، وكان المشركون على العكسِ من ذلك، والسَّبب في ذلك: أن النَّبي صلعم ندب الناس إلى تلقِّي أبي سفيان؛ لأخذ ما معه من أموالِ المشركين من قريش، وكان معه قليل، فلم يظنَّ أكثر الأنصار أنَّه يقعُ قتال، ولم يأخذوا أهبةَ الاستعداد كما ينبغي، بخلاف المشركين، فإنَّهم كانوا مستعدِّين ذابِّين عن أموالهم.
          <{فَاتَّقُوا اللَّهَ}> في الثَّبات مع رسوله، أو مخالفةِ أمره وعقابه <{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}> بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرهِ، أو لعلَّكم ينعم الله عليكم نعمةً أُخرى تشكرونها، فوضعَ الشُّكر موضع الإنعام؛ / لأنَّه سببه.
          <{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ}> ظرف لقوله: «نصركُم»، فيكون الوعد بالإمداد بثلاثةِ آلاف من الملائكة واقعاً في وقعة بدر، وهو مرويٌّ عن الحسن البصري وعامر الشَّعبي والرَّبيع بن أنس وغيرهم، وعليه عملُ المصنف، واختارهُ ابن جرير، وبه جزم الدَّاودي.
          ويؤيِّده: ما روى ابنُ أبي حاتم بسندٍ صحيحٍ إلى الشَّعبي. حيث قال: حدَّثنا أبي:حدثنا موسى بن إسماعيل:حدثنا وهب، عن داود، عن عامر _يعني: الشَّعبي_ : أنَّ المسلمين لما بلغهم يوم بدر أنَّ كرز بن جابر يمدُّ المشركين، فشقَّ عليهم، فأنزل الله تعالى: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} الآية، قال: فلم يمدَّ كرز المشركين حيث بلغته الهزيمة، ولم يمدَّ الله المسلمين بالخمسة.
          ومن طريق سعيد عن قتادة قال: أمدَّ الله المسلمين يوم بدرٍ بخمسة آلافٍ من الملائكة. وعن الرَّبيع بن أنس قال: أمدَّ الله المسلمين يوم بدرٍ بألف، ثمَّ زادهم فصاروا ثلاثة آلاف، ثمَّ زادهم فصاروا خمسة آلاف، وكأنَّه جمع بين آيتي آل عمران والأنفال، وذلك لأنَّ التَّنصيص على الألف لا ينافي الثَّلاثة الآلاف فما فوقها. فمعنى {مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]: يردفهم غيرهم، ويتبعهم ألوفاً أُخر مثلهم، والله تعالى أعلم. وقيل: هو بدل من قوله: {إِذْ غَدَوْتَ} [آل عمران:121] على أنَّ قوله لهم ذلك كان يوم أحد، وكان مع اشتراط الصَّبر والتَّقوى من المخالفة، فلمَّا لم يصبروا عن الغنائم، وخالفوا أمرَ الرَّسول لم تنزل الملائكة، وهو قولُ عكرمة وطائفة، وبه جزمَ ابنُ التين، وأنكرَ الوجه الأول فذَهِلَ <{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران:124]> إنكار أن لا يكفيهم ذلك، وإنما جيءَ بلن إشعاراً بأنهم كانوا كالآيسين من النَّصر؛ لضعفهِم وقلتهم، وقوَّة العدو وكثرتهم، والكفاية: مقدار سدِّ الخلَّة، والاكتفاء: الاقتصار على ذلك، والإمداد: إعطاءُ الشيءِ بعد الشيء. قيل: كل ما كان على جهةِ القوَّة والإعانة قيل فيه: أمدَّه، وكل ما كان على جهةِ الزِّيادة قيل فيه: مدَّه. ومنه قوله تعالى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} [لقمان:27]. وقال البعض: المدُّ في الشَّر، والإمداد في الخيرِ بدليل قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15] {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} [مريم:79]. وقال في الخير: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ} [الأنفال:9]. وقرأ ابن عامر: {مُنْزِّلِينَ} بالتشديد للتكثير أو للتدريج. <{بَلَى}> إيجاب لما بعد {لَنْ}؛ أي: بلى يكفيكم الإمداد بهم، فأوجبَ الكفاية، ويقال: تصديق لوعده بالإمداد والكفاية.
          ثمَّ وعد لهم الزِّيادة على الصَّبر والتقوى، حثًّا عليهما، وتقوية لقلوبهم فقال: <{إِنْ تَصْبِرُوا}> أي: على لقاء العدو / <{وَتَتَّقُوا}> معصية الله ومخالفة نبيه <{وَيَأْتُوكُمْ}> أي: المشركون <{مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}> أي: من ساعتهم هذه، وهو في الأصل مصدر فارتِ القِدْرُ: إذا غلت، فاستعير للسرعة، ثم أُطلق للحال التي لا ريث فيها ولا تَرَاخي _وقد يجيءُ تفسيره بالغضبِ من المصنِّف ☼ _ والمعنى: إن يأتوكم في الحال <{يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ}> في حال إتيانهم بلا تراخ وتأخير <{مُسَوَّمِينَ}> أي: مُعلمين من التَّسويم الذي هو إظهارُ سيماء الشيء.
          قال أبو إسحاق السَّبيعي: عن حارثة بن مضرِّب، عن عليِّ بن أبي طالب ☺ قال: كان سيماء الملائكة يوم بدرٍ الصُّوف الأبيض، وكان سيماهم أيضاً في نواصي خيولهم. وروى ابنُ أبي حاتم بإسناده عن أبي هريرة ☺: {مُسَوَّمِينَ} قال: بالعهنِ الأحمر. وقال مكحول: مسوِّمين بالعمائم.
          وروى ابن مردويه من حديث عبد القدوس بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس ☻ قال: قال النبي صلعم في قوله: {مُسَوُّمِينَ}: «معلمين، وكانت سيماء الملائكة يوم بدرٍ عمائم سوداء، ويوم أُحد عمائم حمراء».
          ورُوي من حديث حصين بن مخارق عن سعيد عن الحكم عن مقسم عن ابن عبَّاس ☻ قال: لم تقاتل الملائكة إلَّا يوم بدر. وقال ابنُ أبي حاتم:حدثنا الأحمسي:حدثنا وكيع:حدثنا هشام بن عروة، عن يحيى بن عبَّاد: أنَّ الزُّبير ☺ كان عليه يوم بدرٍ عمامة صفراء معتجراً بها، فنزلت الملائكةُ عمائمهم صفر.
          وقال ابنُ إسحاق: حدَّثني من لا أتهم، عن مِقْسَم، عن ابن عبَّاس ☻ قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حُمر، ولم يضرب الملائكة في يومٍ سوى يوم بدر، وكانوا يكونون عدداً ومدداً لا يضربون. وقال عروة: كانت الملائكة يومئذٍ على خيل بُلْق وعمائمهم صفر. وقال أبو إسحاق: عَمائمهم بيض. وقال الحسنُ: أعلموا على أذناب خيلهم ونواصيهم بصوفٍ أبيض. /
          ويجوز أن يكون قوله: {مُسَوَّمِينَ} [آل عمران:125] بمعنى مرسلين من التَّسويم بمعنى الإسامة؛ أي: الإرسال على أن يكون من السَّوم، وهو تركُ الماشية لترعى. يقال: إبلٌ سائمة؛ أي: مرسلة في المرعى، فالملائكةُ مرسلَون أرسلَهم الله تعالى لنصرةِ نبيه والمؤمنين وإهلاك المشركين كما تُهلِك الماشية النبات والحشيش. وقرأ ابن كثير وأبو عَمرو وعاصم ويعقوب: بكسر الواو بمعنى: أنَّ الملائكة سوَّموا أنفسهم أو خيولهم بعلامات مخصوصةٍ أو أرسلوا خيولهم على الكفَّار تقتلهم.
          <{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ}> أي: وما جعل إمدادكم بالملائكة <{إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ}> إلَّا بشارة لكم بالنُّصرة <{وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ}> أي: ولتسكن إليه من الخوف. وإنَّما جيء بلام التعليل؛ لعدم شرط النصب. والمعنى والله تعالى أعلم: وما جعله الله إلَّا ليبشِّركم ويدخل في قلوبكم السُّرور بحصول نصرِ الله تعالى ولتطمئنَّ قلوبكم على إعانةِ الله ونصرتهِ لكم كيلا تقاعدوا عن المحاربةِ مع الكفَّار.
          <{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}> لا من الملائكة ولا من العُدَّة والعِدَّة، بل ذلك من أسبابِ النصر لا يحتاج الرَّبُّ في النصر إلى ذلك. والحاصل: إنَّه تنبيه على أنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد، وإنما أمدَّهم ووعدهم به بشارة لهم، وربطاً على قلوبهم من حيث إنَّ نظر العامة إلى الأسباب أكثر، وحثَّ على أن لا يبالوا بمن تأخَّر عنهم، فينبغِي للمؤمن أن لا يركنَ إلى شيءٍ من ذلك فإن ترتب النصر على ذلك ليس إلَّا بطريق جري العادة، وما النَّصر في الحقيقة إلَّا من عند الله، فيجب أن لا يتوكّل المؤمن إلَّا على الله الذي هو مسبِّب الأسباب.
          <{الْعَزِيزِ}> أي: الذي لا يُغالَب في أقضيته <{الْحَكِيمِ}[آل عمران:126]> أي: الذي ينصر ويخذلُ بوسط وبغير وسط على مقتضَى الحكمة والمصلحة، ويجري أفعاله على ما يُريد وهو أعلمُ بمصالح العبيد <{لِيَقْطَعَ طَرَفاً}> أي: جماعة وطائفة <{مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:127]> وقال السُّدي: ليهدم ركناً من أركان المشركين بالقتل والأسر.
          وقال البيضاوي: والمعنى: لينقص منهم بقتل بعضٍ / وأسر بعضٍ وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من صناديدهم، وهو متعلِّق بقوله: {نَصَرَكُمُ} [آل عمران:123] على تقدير أن يجعل قوله: {إِذْ تَقُولُ}[آل عمران:124] ظرفاً لنصركم لا بدلاً ثانياً من {إِذْ غَدَوْتَ} [آل عمران:121] لأنَّه على تقدير كونه بدلاً منه يكون القول المذكور واقعاً يوم أُحد منقطعاً عن قصَّة بدر، فكون قوله تعالى: {لِيَقْطَعَ} [آل عمران:127] متعلقاً بـ{نَصَرَكُمُ} يستلزم الفصل بين العامل ومعموله بالأجنبي أو متعلق بقوله: {وَمَا النَّصْرُ} [آل عمران:126] إن كان اللام للعهد، والعامل هو النَّصر الذي انتقض ما تعلَّق به من النَّفي بإلَّا، وذلك يصح على التَّقديرين كما ستعرف، والمعنى والله تعالى أعلم: ليقطع ذلك النَّصر المعهود الواقع بواسطةِ إمداد الملائكة جماعة من الذين كفروا.
          <{أَوْ يَكْبِتَهُمْ} [آل عمران:127]> أو يخزيهم أو يصرعهم أو يهلكهم، وقيل: يلعنهم، والكبت: الإصابة بمكروه، وقيل: هو صرع الشيء على وجهه، والتاء فيه على هذين المعنيين أصلية، وليست بدلاً من شيء. وقيل: أصله من كَبَدَهُ إذا أصابه مكروه أثَّر في كبدهِ وأوجعه، كما يقال: رَأَسَه: إذا أصاب رأسه، فإن العرب كثيراً ما تبدل التاء من الدال فتقول: سبت رأسه وسبده، ثم ذكر الكبت ويراد به الإخزاء والإذلالُ والإهلاكُ والهزيمة، وكل هذا ذكره المفسرون في تفسير الكبت، ويشترك الجميع في إصابةِ المكروه، ومن جعل الآية متعلِّقة بقصَّة أحد، وجعل قوله: {إِذْ تَقُولُ} بدلاً ثانياً من قوله: {إِذْ غَدَوْتَ} وجعل قوله: «ليقطعَ» متعلِّقاً بقوله: {وَمَا النَّصْرُ}.
          يقول: إنَّه قد قطع يوم أحد طرفٌ منهم وكُبتوا حيث قُتل منهم يومئذٍ ستة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقُتِلَ صاحب لوائهم، وكانت النُّصرة للمسلمين إلى أن خالفوا أمرَ رسول الله صلعم .
          وكلمة أو لتنويع فائدة النَّصر، وبيان أنَّها هذان النَّوعان لا للترديد، إذ ليس المقام مقام الترديد؛ لجواز اجتماع الفائدتين، بل هو لازمٌ للنصر {فَيَنْقَلِبُوا} [آل عمران:127] أي: فيرجعوا خائبين منقطعي الآمال. وقال البيضاوي: فينهزموا مُنْقطعي الآمال، وإنما قيَّد الانهزام به؛ لأنَّ الخيبة لا تكون إلَّا بعد التوقع، / بخلاف اليأس فإنَّه يكون بعد التوقُّع وقبله، فضدُّ اليأس هو الرَّجاء، وضدُّ الخيبة هو الظفر.
          ({فَوْرِهِمْ} غَضَبِهِم) ثبت هذا في رواية الكُشميهني، وسقط في رواية غيره وهو قول عكرمة ومجاهد، ورُوِي عن ابن عبَّاس ☻ . وأصلُ الفور: غليان القدر كما عرفت، ثمَّ قيل للغضبان: فائر. وقال الحسن وقتادة والرَّبيع والسُّدي: معناه: من وجههم.
          (وَقَالَ وَحْشِيٌّ) بفتح الواو وسكون الحاء المهملة وكسر الشين المعجمة وتشديد الياء، هو: ابنُ حرب ضدُّ الصلح، مولى طُعَيمة مصغَّر طعمة _بالمهملتين_، وقيل: مولى جبير بن مُطعم بن عدي.
          (قَتَلَ حَمْزَةُ) هو: ابنُ عبد المطلب (طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ) كذا وقع فيه: «ابن الخيار»، وهو وهم، وصوابه: ابنُ نوفل. قال ابنُ الأثير: هو طعيمةُ بن عديٍّ بن نوفل بن عبد مناف القرشي، ولم يذكر ابن الخيار.
          (يَوْمَ بَدْرٍ) وكان جُبير بن مُطعم وهو ابنُ أخي طُعَيمة قال له لمَّا قُتِل حمزة يوم بدر طُعيمة: إن قتلتَ حمزة بعمِّي فأنت حرٌّ فقتله يوم أُحد، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وهذا التَّعليق رواه البخاري في «غزوة أُحد» في باب «قتل حمزة ☺» [خ¦4072].
          (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} [الأنفال:7]) كلمة «إذ» منصوبة المحل على إضمار: اذكر ({إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ}) المراد بإحدى الطَّائفتين: الطَّائفة التي فيها العير لا النَّفير، وكان في العير أبو سفيان ومن معه ومعهم من الأموال كثير، وكان في النَّفير أبو جهل وعتبة بن ربيعة وغيرهما من رؤساءِ قريش مستعدِّين للسلاح، متأهبين للقتال، ومراد المسلمين حصول العير لهم، فقوله: {إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} ثاني مفعولي {يَعِدُكُمُ} وقد أبدل عنها قوله: ({أَنَّهَا لَكُمْ}) بدل اشتمال.
          ({وَتَودُّونَ}) أي: تحبُّون وتمنون ({أنَّ غيرَ ذَاتِ الشَّوْكةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]) أي: أنَّ الطائفة التي لا حدَّ لها ولا منعة ولا قتال تكون لكم وهي العير، فإنه لم يكن فيها إلَّا أربعون فارساً، ولذلك يتمنَّونها ويكرهون ملاقاة النَّفير؛ لكثرة عَددهم وعُددهم.
          وقصة ذلك مختصرة: أنَّ النَّبي صلعم / خرج من المدينة طالباً لعير أبي سفيان التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشَّام فيها أموال جزيلة لقريش، فاستنهضَ رسول الله صلعم مَنْ خَفَّ منهم فخرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً وطلب نحو السَّاحل على طريق بدرٍ، وعلم أبو سفيان بخروجِ رسولِ الله صلعم في طلبه، فبعث ضَمْضم بن عمرو نذيراً إلى أهل مكة، فنهضُوا في قريبٍ من ألف مقنَّع ما بين التسعمائة إلى الألف، وتيامنَ أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر، فنجا، وجاء النَّفير فوردوا ماء بدرٍ وجمع الله بين المسلمين والكافرين على غيرِ ميعادٍ لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم، والتَّفرقة بين الحقِّ والباطل.
          والحاصل أنَّ رسول الله صلعم لما بلغه خروج النَّفير أوحى الله إليه بعِدَةِ إِحدى الطَّائفتين إمَّا العير، وإمَّا النَّفير، ورغب كثير من المسلمين إلى العير؛ لأنَّه كسبٌ بلا قتال، كما قال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7].
          وروى الطَّبري، وأبو نُعيم في «الدلائل» من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ قال: أقبلتْ عيرُ أهل مكَّة من الشَّام فخرج النَّبي صلعم يريدها، فبلغ ذلك أهل مكَّة فأسرعوا إليها وسبقت العيرُ المسلمين، وكان الله وعدهم إحدى الطَّائفتين وكان أن يلقوا العير أحب إليهم، وأيسر شوكة، وأحضر مغنماً من أن يلقوا النَّفير، فلما فاتهم العير نزلَ رسول الله صلعم بالمسلمين بدراً فوقع القتال.
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هو البخاري نفسه (الشَّوْكَةُ: الحَدُّ) كذا وقع في بعض الأصول، وهو قول أبي عبيدة. قال في كتاب «المجاز»: يقال: ما أشد شوكة بني فلان؛ أي: حدُّهم، وكأنها مستعارة من واحدة الشوك، والمراد السِّلاح الذي له حدَّة كسِنان الرُّمح والسَّيف ونصل السَّهم، فإن الذي يشبَّه بواحدة الشَّوك هو السِّلاح المذكور، لا نفس الحدَّة. والشَّوك: نبت في طرفه حدَّة كحدَّة الإبر.