نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم}

          ░21م▒ (بابٌ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]) أي: بيان سبب نزول هذه الآية، وقد ذكر في الباب سببان. وقيل: إنَّه صلعم همَّ بسبِّ الذين انهزمُوا يوم أُحد، وكان فيهم عثمان بن عفَّان ♥ ، فنزلت هذه الآية. وقيل: إنَّ أصحاب الصُّفَّة خرجوا إلى قبيلتين من بني سُليم عصيَّة وذَكوان فقُتلوا، فدعا عليهم أربعين صباحاً. وقيل: لما رأى النَّبي صلعم حمزة ☺ ممثَّلاً [به] قال: «لأمثلنَ بكذا وكذا منهم»، فنزلتْ هذه الآية، وهي في سورة آل عمران. قال الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} اعتراضٌ بين المعطوفات، فإن قوله تعالى: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} عطف على قوله تعالى في الآية المتقدِّمة: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} [آل عمران:127].
          والمعنى _والله تعالى أعلم_: إنَّ الله مالك أمرهم فإمَّا أن يُهلكهم أو يكبتَهم؛ أي: يخزيهم فينقلبوا خائبين مُنهزمين مُنقطعي الآمال، أو يتوبَ عليهم إن أسلموا، أو يعذِّبهم إن أصرُّوا وليس لك من أمرهِم شيءٌ، وإنما أنت عبدٌ مأمورٌ لإنذارهم وجهادهم.
          قال المحقق التفتازاني عند قول صاحب «الكشاف»: {أَوْ يَتُوبَ} عطف على «ليقطع» أو «ليكبتهم»، ووجه سببية النصر على تقدير تعلق اللام بقوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10] ظاهر.
          وأمَّا على تقدير تعلقها بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران:123] كان من أظهر الآيات وأبهرِ البيِّنات، فيصلح سبباً للتَّوبة على تقدير الإسلام، أو لتعذِيبهم على تقدير البقاء على الكُفْر بجحودِهم بالآيات، وإن أريدَ التَّعذيب في الدُّنيا بالأسر فالأمرُ ظاهر. فإن قيل: هو يصلحُ سبباً لتوبتهِم والكلام في التَّوبة عليهم. قلنا: يصلحُ سبباً لإسلامهِمْ الذي هو يصلحُ سبباً للتَّوبة عليهم، فيكون سبباً لها بالواسطةِ.
          ويحتمل أن يكون معطوفاً على الأمرِ أو شيءٍ بإضمار «إن»؛ أي: ليس لك من أمرهِم، أو من التَّوبة عليهم، أو من تعذيبهِم شيءٌ، أو ليس لك من أمرهم شيءٌ، أو التَّوبة عليهم أو تعذيبهم.
          ويحتمل أن تكون كلمة «أو» بمعنى: إلَّا أن؛ أي: ليس لك من أمرهم شيءٌ إلَّا أن يتوبَ الله عليهم فتُسرَّ به أو يعذِّبهم فتشفى منهم.
          {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] قد استحقُّوا / التَّعذيب بظلمهم أنفسهم بكفرهم
          (قَالَ حُمَيْدٌ وَثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ ☺: شُجَّ النَّبِيُّ صلعم ) على البناء للمفعول (يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟ فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}) أي: هذه الآية، أمَّا حديث حُميد فوصلَه أحمد والترمذيُّ والنَّسائي عن حُميد، به.
          وقال ابنُ إسحاق في «المغازي»: حدَّثني حميد الطَّويل عن أنس ☺ قال: كسرت رَباعية النَّبي صلعم يوم أُحد، وشجَّ في وجهه فجعلَ الدَّم يسيلُ على وجهه، وجعل يمسحُ الدَّم وهو يقول: «كيف يُفلح قومٌ خَضبوا وجهَ نبيِّهم وهو يدعوهُم إلى ربهم؟»، فأنزلَ الله هذه الآية.
          قال الطِّيبي: والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أنَّ هذا معاتبة من الله تعالى لرسولهِ صلعم على تعجيلهِ في القول برفع الفلاح عن القوم يوم أُحد، كما أنَّ قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} [آل عمران:122] مُعاتبة على أصحاب رسولِ الله صلعم وتعييرٌ لهم بالفشلِ.
          يعني: فلمَّا قال رسول الله صلعم حين كسر رَباعيته وشجَّ في وجهه: «كيف يفلحُ قومٌ شجوا نبيهم» أي: لن يفلحوا أبداً، فردَّ الله بقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] كيف تستبعد الفلاح وبيد الله أزمَّةُ الأمور كلِّها، وله ما في السَّموات والأرض يغفرُ لمن يشاءُ ويعذِّب من يشاء، وليس لك من الأمر إلَّا التَّفويض والرِّضا بما قضى.
          فهؤلاء إن استوجبوا العذاب بما فعلوا بك فبمشيئةِ الله لا بمشيئتكَ، وإن استحقُّوا الغُفران بأن يتوب عليهم فبإرادته سبحانه لا بإرادتكَ، فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران:129] تأكيد لقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] وتذييل له. وقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:129] تقرير لمعنى التَّذييل على سبيل الاستئناف، والله تعالى أعلم.
          وأمَّا حديث ثابت البُناني فوصله مسلم من رواية حمَّاد بن سلمة عن ثابت، عن أنس ☺: أنَّ النَّبي صلعم قال يوم أُحد وهو يسلتُ الدَّم عن وجهه: «كيف يُفلح قومٌ شجُّوا نبيَّهم وكسروا رَباعيته وأدموا وجهه؟» فأنزل الله ╡: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] الآية.
          وذكر ابن هشام في حديث أبي سعيد الخدريِّ ☺: أنَّ عُتبة بن أبي وقَّاص هو الذي كسر رَباعية النَّبي صلعم السُّفلى، وجرح شفته السُّفلى، وأنَّ عبد الله بن شهاب الزُّهري هو الذي شجَّه في جبهتهِ.
          وأنَّ عبدَ الله بن قَمِئة جرحه في وجنتهِ فدخلتْ حَلقتان من حِلَق المغفر في وَجْنته، وأنَّ مالك بن سنان مصَّ الدَّم من وجههِ صلعم ثمَّ ازدرده (1) فقال له: «لن تَمَسَّك النار».
          وروى ابنُ إسحاق من حديث سعدِ بن أبي وقَّاص ☺ قال: ما حرصتُ على قتلِ رجلٍ قط حرصِي على قتلِ أخِي عتبةَ بن أبي وقَّاص لِمَا صنعَ برسول الله صلعم يوم أُحد.
          وروى الطَّبراني من حديث أبي أُمامة ☺ قال: رَمى عبدُ الله بن قَمِئة رسول الله صلعم يوم أحد، فشجَّ في وجهه وكسر رَباعيته، فقال: خذْها وأنا ابن قمئة، فقال رسول الله صلعم وهو يمسح الدَّم / عن وجهه: «أقمأكَ (2) الله»، فسلَّط الله عليه تيس جبلٍ، فلم يزل ينطحه حتى قطَّعه قطْعة قطعةً.
          وسيأتي في أواخر هذه الغزوةِ شواهد لحديث أنسٍ ☺ من حديث أبي هريرة [خ¦4073] [خ¦4075] وغيره ♥ ، ووقعَ عند مسلم من طريق ابن عبَّاس ☻ عن عمر ☺ في قصَّة بدرٍ قال: فلمَّا كان يوم أُحد قتل منهم سبعون وفرُّوا، وكسرتْ رَباعية النَّبي صلعم ، وهشمتِ البيضةُ على رأسهِ وسالَ الدَّم على وجههِ، فأنزل الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:165] الآية.


[1] في هامش الأصل: الازدراد: الابتلاع. جوهري.
[2] في هامش الأصل: يقال أقمأته؛ أي: صغرته وذللته. كذا في «الصحاح».