نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنةً نعاسًا يغشى طائفةً منكم}

          ░21▒ (بابٌ: { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً} إِلَى قَوْلِهِ: {بِذَاتِ الصُّدُورِ}[آل عمران:154]) وقد ذكرت الآية بتمامها في بعض الأصول، وهي أيضاً في سورة آل عمران عقيب الآية السابقة.
          قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً} أي: أنزل الله عليكم الأمن حتى أخذكم النعاس.
          قال المفسِّرون: لما انصرف المشركون يوم أحد كانوا يتوعَّدون المسلمين بالرجوع، ولم يأمن المسلمون كرَّتهم وكانوا تحت الحُجفة متأهبين للقتال، فأنزل الله عليهم دون المنافقين أمنةً، فأخذهم النُّعاس وإنما ينعسُ من أَمِنَ والخائف لا ينام.
          وروى الإمام أبو محمد عبد الرَّحمن بن أبي حازم / بإسناده عن عبدِ الله بن مسعود ☺ قال: (النُّعاس في القتالِ من الله، وفي الصَّلاة من الشيطان).
          وقوله: {مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ} أرادَ به الغم الذي حصل لهم عند الانهزام، و«الأمنةَ»: الأمنُ، نُصِب على المفعول، و«نعاساً»: بدل منها، أو عطف بيان، أو هو المفعول، و{أَمَنَةً} حالٌ منه متقدِّمة، أو مفعول له بمعنى: نعستُم أمنةً، أو حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة، أو على أنَّه جمع آمن كبارٍّ وبررة. وقرئ: <أمْنة> بسكون الميم، كأنها المرَّة من الأمن {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} أي: النعاس. وقرأ حمزة والكسائي: بالتاء رداً على الأمنة، و«الطَّائفة» هم المؤمنون أهل الصِّدق واليقين حقًّا {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: أوقعتم أنفسهم في الهمومِ، أو ما يهمهم إلَّا همَّ أنفسهم وطلب خلاصها.
          قال ابنُ إسحاق: أنزلَ الله النُّعاس أمنةً لأهل اليقين فهم نيام لا يخافون، والذين أهمَّتهم أنفسهم أهل النِّفاق في غاية الخوف والذُّعر؛ يعني: لا يغشاهم النُّعاس من القلقِ والجزعِ والخوف.
          {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} صفةٌ أخرى «لطَائفة»، أو حالٌ، أو استئناف على وجه البيان لما قبله، و{غَيْرَ الْحَقِّ} نصبٌ على المصدر؛ أي: يظنُّون بالله غير الظنِّ الحقِّ الذي يَحِقُّ أن يظنَّ به، وهو قولهم: لا يُنصر محمد وأصحابه، أو أنه قتل، أو أن أمره مضمحلٌّ.
          و«ظنَّ الجاهلية» بدل منه وهو الظَّن المختصُّ بالملَّة الجاهلية وأهلها، وهي زمن الفترة، ويجوز أن يرادَ: لا يبطن مثل ذلك الظَّن إلَّا أهل الشِّرك الجاهلون بالله.
          {يَقُولُونَ} أي: لرسولِ الله صلعم يسألونه وهو بدلٌ من «يظنُّون» {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} أي: هل لنا معاشر المسلمين ممَّا أمرَ الله ووعدَ من النَّصر والظَّفر نصيب، وقيل: أُخبِرَ عبد الله بن أُبي بقتلِ بني الخزرجِ فقال ذلك، والمعنى: إنَّا منعنا تدبيرَ أنفسنا وتصريفها باختيارنا، فلم يبقَ لنا من الأمر شيءٌ.
          وتوضيحُه: أنَّ عبدَ الله بن أُبي لما شاوره النَّبي صلعم في هذه الوقعة أشار إليه بأن لا يخرج من المدينة، ثم إنَّ الصحابة ♥ / ألحُّوا عليه صلعم في أن يخرج إليهم، فلم يزالوا يلحُّون عليه حتى دخلَ، فلبس لَأْمَته وتقلَّد سيفه وأخذَ رُمحَه، وألقى الترسَ على ظهرهِ، فخرجَ إليهم تام السِّلاح.
          فلمَّا رأوه قد لبس ندموا على ما قالوا، فاعتذروا إليه يقولون: افعلْ ما بدا لك وأُمرتَ به، لا ينبغِي لك أن تفعلَ ما قلنا والوحيُّ ينزلُ عليك، فقال: «لا ينبغِي لنبيٍّ أن يلبسَ لأمتَه فيخرجَها قبل أن يقاتلَ» [خ¦96/28-10894].
          ولمَّا خالفَ صلعم رأى عبدَ الله بن أُبي غضبَ ابنُ أُبي من ذلك فقال: عَصاني وأطاع الولدان، ورجعَ مع قومه إلى المدينة، ثمَّ لما بلغه كثرة القتلى في بني الخزرجِ قال: هل لنا من الأمر من شيءٍ؛ يعني: أنَّ محمداً لم يقبلْ قولي حين أشرتَ إليه بعدمِ الخزرج من المدينة فليس لنا أمر يُطاع.
          {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} أي: قل يا محمَّد صلعم : إنَّ الغلبة الحقيقيَّة والنُّصرة في الحقيقة لله تعالى ولأوليائهِ المؤمنين، فإنَّ حزبَ الله هم الغالبون، أو القضاء له يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريد، وهو اعتراضٌ. وقرأ أبو عَمرو ويعقوب: {كلُّه} بالرفع على الابتداء {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ} أي: لا يظهرون {لَكَ} (1) يا محمد صلعم حال من ضمير «يقولون»؛ أي: يقولون مُظهرين أنهم مُسترشدون طالبون للنَّصر مُبطنين الإنكار والتَّكذيب {يَقُولُونَ} أي: في أنفسهم، أو بعضهم لبعض إذا خلوا، وهو بدلٌ من «يُخْفون»، أو استئنافٌ على وجهِ البيان له {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي: من النَّصر والظَّفر، كما وعد محمد صلعم ، أو لو كان الأمر كما زعمَ أنَّ الأمرَ كلَّه لله تعالى ولأوليائه؛ أي: ينكرون قولك لهم: إنَّ الأمرَ كلَّه لله تعالى ولأوليائه، أو لو كان لنا اختيار وتدبير لم نبرحْ كما كان رأي ابن أُبي وغيرُه يعنون أنهم أُخرجوا كرهاً، ولو كان الأمر بيدهم لم يخرجوا، وكان أكثرُ القتلى يومئذٍ من الأنصار ولم يقتل من المهاجرين إلَّا قليل.
          {مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}: أي: لَمـَا غُلبنا ولما قُتل من قُتل منا في هذه المعركة. وقيل: الذي أخفوه قولهم: لو كنَّا في بيوتنا ما قُتلنا هاهنا، وقيل: الذي أخفوه (2) / إسرارهم الكفر والشَّك في أمر الله تعالى، وقيل: هو النَّدم على حضورهم مع المسلمين بأُحد فردَّ الله تعالى ذلك عليهم بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} أي: قل يا محمَّد صلعم : أيَّها المنافقون لو كنتُم في بيوتكُم ولم تخرجوا إلى أُحد {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} أي: لخرج الذين قدَّر الله عليهم القتلَ وكتب في اللَّوح المحفوظ إلى مَصارعهم ولم تنفع الإقامة بالمدينة، ولم ينجُ منهم أحدٌ، فإنَّه قدَّر الأمور ودبَّرها في سابق قضائه لا معقِّب لحكمه.
          وقال محمدُ بن إسحاق: حدَّثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزُّبير عن أبيه، عن عبدِ الله بن الزبير ☻ قال: قال الزُّبير ☺: لقد رأيتني مع رسولِ الله صلعم حين اشتدَّ الخوف علينا أرسل الله علينا النَّوم، فما منَّا من رجل إلَّا ذقنه في صدرهِ، قال: فوالله إني لأسمعُ قول معتِّب بن قُشير ما أسمعُه إلَّا كالحلم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا هاهنا، فحفظنا منه فأنزل الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] كقول معتِّب.
          {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} [آل عمران:154]: أي ليمتحنَ بأعمالكُم ما في صُدوركم، ويظهر سرائرها من الإخلاصِ والنِّفاق، وهو علَّة فعل محذوفٍ؛ أي: وفعل ذلك ليبتلي، أو عطف على محذوفٍ؛ أي: لبرز لنفاذ القضاء أو لمصالح جمَّة وللابتلاء، أو على قوله: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا} [آل عمران:153].
          {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:154] أي: وليكشفه ويميزه ويظهره من الشَّك بما يُريكم من عجائب صُنعه من الأمنة وإظهار أسرار المنافقين، أو يخلصه من الوساوسِ، وهذا التَّمحيص خاصٌّ بالمؤمنين.
          {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] أي: الأسرار الخفيَّة التي في الصُّدور من الخيرِ والشَّر قبل إظهارها، وفيه وعدٌ ووعيدٌ، وتنبيه على أنَّه غنيٌّ عن الابتلاء، وإنَّما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهارِ حال المنافقين.


[1] في هامش الأصل: يعني: يقولون لك فيما يظهرون: هل لنا من الأمر من شيء لسؤال المؤمنين المسترشدين وهم فيما يبطنون على النفاق. منه.
[2] جعل في هامش الأصل على قوله: وقيل الذي أخفوه... علامة تقديم على قوله: قولهم لو كنا...