نجاح القاري لصحيح البخاري

باب عمرة القضاء

          ░43▒ (باب عُمْرَةُ الْقَضَاءِ) كذا في رواية الأكثر، وفي رواية المستملي وحدَه: <غزوة القضاء> والأول أولى، ووجهوا كونها غزوة بأنَّ موسى بن عقبة ذكر في «المغازي» عن ابن شهاب أنَّه صلعم خرج مُستعدًا بالسلاح والمقاتلة خشيةَ أن يقعَ من قريش غدرٌ، فبلغهم ذلك ففزعوا، فلقيه مُكرِّز فأخبره أنَّه باقٍ على شرطهِ وأن لا يدخلَ مكة بسلاحٍ إلَّا السيوف في أغمادها، وإنما خرج في تلك الهيئة احتياطًا، فوثق بذلك، وأخَّر النَّبي صلعم السِّلاح مع طائفةٍ من أصحابه خارج الحرم حتَّى رجعَ، ولا يلزم من إطلاق الغزوةِ وقوع المقاتلة.
          وقال ابنُ الأثير: أدخلَ البخاري عمرةَ القضاء في «المغازي» لكونها كانت مُسَبَّبة / عن غزوة الحديبية، انتهى.
          وقال العينيُّ أخذًا من الكرماني: وإنما ذكر العمرة في كتاب المغازي للخصومة الَّتي جرت بينهم وبين الكفَّار في سنة التَّحلل والسَّنة القابلة أيضًا، وإن لم تكن بالمسايفةِ إذ لا يلزم من إطلاقِ الغزوة المقاتلة بالسُّيوف، انتهى.
          واختُلفَ في سبب تسميتها عُمرة القضاء، فقيل: المراد بالقضاءِ ما وقع من المقاضاةِ بين المسلمين والمشركين من الكتابِ الَّذي كُتب بينهم بالحُديبية، فالمرادُ بالقضاء الفصل الَّذي وقع عليه الصُّلح، ولذلك يُقال لها: عُمرة القضيَّة.
          قال أهل اللُّغة: قاضى فلانًا عاهدَهُ، وقاضاهُ عاوضَه، فيُحتملُ تسميتها بذلك لأمرين.
          قال القاضي عياض: ويرجِّح الثاني تسميتها قصاصًا، قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}(1) [البقرة:194].
          قال السُّهيلي: تسميتُها عمرة القصاص أولى منها؛ لأنَّ هذه الآية نزلت فيها.
          وقال الحافظُ العسقلاني: كذا رواه عبدُ بن حميد وابنُ جرير بإسنادٍ صحيحٍ عن مجاهد، وبه جزمَ سليمان التَّيمي في «مغازيه».
          وقال ابنُ إسحاق: بلغنا عن ابن عبَّاس ☻ فذكره ووصله الحاكم في «الإكليل» عن ابنِ عبَّاس ☻ لكن في إسنادهِ الواقدي.
          وقال السُّهيلي: سُمِّيت عمرة القضاء؛ لأنَّه قاضى فيها قريشًا لا لأنَّها قضاء عن العمرة الَّتي صُدّ عنها؛ لأنَّها لم تكن فسدت حتَّى يجب قضاؤها بل كانت عمرة تامة، ولهذا عدّوا عُمَر النَّبي صلعم أربعًا كما تقدَّم تقريرها في كتاب الحج [خ¦1775]. وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى، وعدَّت عُمرة الحديبية في العُمًر لثبوتِ الأجر لا لأنَّها كمُلت.
          وهذا الاختلاف مبني على الاختلافِ في وجوب القضاء على من اعتمرَ، فصُدَّ عن البيت، فقال الشَّافعية والمالكيَّة: يجب عليه الهدي، ولا قضاءَ عليه، وعن أبي حنيفة ☼ عكسه، وعن أحمد رواية: ((أنَّه لا يلزمه هدي ولا قضاء)) وأخرى: ((يلزمُه الهدي والقضاء)). فحجَّة الشَّافعية قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]. وحجَّة أبي حنيفة ☼ : أنَّ العمرة تلزم بالشُّروع، فإذا أُحصر جاز له / تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التَّحلل بين الإحرامين سقوط القضاء. وحجَّة من أوجبها ما وقع للصَّحابة ♥ فإنهم نحروا الهدي حيث صُدوا، واعتمروا من قابلٍ، وساقوا الهدي.
          وقد روى أبو داود من طريق أبي حاضر قال: اعتمرتُ فأُحصرت، فنحرتُ الهديَ وتحلَّلت ثمَّ رجعتُ العام المقبل، وقال لي ابن عبَّاس ☻ : أَبْدل الهدي، فإن النَّبي صلعم أمرَ أصحابه بذلك.
          وحجَّة من لم يوجبها أن تحلَّلهم بالحصر لم يتوقَّف على [نحر] الهدي بل أمرَ من معه هدي أن ينحرَه، ومن ليس معه هدي أن يحلقَ، واستدلَّ الكلُّ بظاهر أحاديث من أوجبها، وقال ابنُ إسحاق: خرج النَّبي صلعم في ذي القعدة مثل الشَّهر الَّذي صدَّه فيه المشركون معتمرًا عمرة القضاء مكان عمرته الَّتي صدُّوه عنها.
          وكذلك ذكر موسى بن عُقبة عن ابن شهابٍ وأبو الأسود عن عروة، وسليمان التَّيمي جميعًا في «مغازيهم» أنَّه صلعم خرجَ إلى عُمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع. وفي «مغازي سليمان»: لما رجعَ من خيبر بثَّ سراياه، وأقامَ بالمدينة حتَّى استهلَّ ذو القعدة، فنادَى في الناس أن يتجهزوا إلى العمرة.
          وقال ابنُ إسحاق: خرجَ معه من كان صُدَّ في تلك العمرة إلَّا من مات أو استُشهد، وقال الحاكم في «الإكليل»: تواترتِ الأخبارُ عن أئمة المغازي أنَّه صلعم لما دخلَ هلال ذي القعدة من سنة سبع من الهجرة أمرَ أصحابه أن يعتمروا قضاءَ عُمرتهم، وأن لا يتخلَّف منهم أحدٌ ممَّن شهدَ الحديبية، فخرجوا إلَّا من استُشهدَ، وخرج معه أيضًا آخرون ممَّن لم يشهد الحديبية مُعتمرين، وكانت عدَّتهم في هذه العُمرة ألفين سوى النِّساء والصِّبيان، قال: وتُسمى أيضًا عُمرة الصُّلح، انتهى.
          ويعكِّر ذلك على ما قاله الكرماني من أن تسميتها بالقضاءِ للاشتقاق ممَّا كتبوا في كتاب الصُّلح يوم الحديبية، هذا ما قاضَى عليه لا من القضاءِ الاصطلاحي، إذ لم تكن العُمرة الَّتي اعتمروهَا في السَّنة القابلةِ قضاءً للتي تحلَّلوا منها يوم الصُّلح، فليتأمل. /
          (ذَكَرَهُ أَنَسٌ ☺ عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أي: ذكر حديث عُمرة القضاء أنس بن مالك ☺، قال الحافظُ العسقلاني: كنتُ ذكرته في «تغليق التَّعليق» أنَّ مراده حديث أنس ☺ في عدد عُمَر النَّبي صلعم ، وقد تقدَّم موصولًا في الحجِّ ثمَّ ظهر لي أنَّ مراده بحديث أنس ☺ ما أخرجه عبد الرَّزَّاق عنه من وجهين:
          أحدهما: عن مَعمر عن الزُّهري عن أنس ☺: أنَّ النَّبي صلعم دخلَ مكَّة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يُنشدُ بين يديه:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ                     قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ
بَأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِهِ
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ                     كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
          أخرجه أبو يعلى من طريقه، وأخرجه الطَّبراني عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن عبد الرَّزَّاق. قال الحافظُ العسقلاني: وما وجدتُه في «مسند أحمد»، وقد أخرجه الطَّبراني أيضًا عاليًا: عن إبراهيم بن أبي سُويد عن عبد الرَّزَّاق، فذكر القسم الأول من الرَّجز، وقال بعده:
الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ                      ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ
وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ                     يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ
          قال الدَّارقطني في «الأفراد»: تفرد به مَعمر عن الزُّهري، وتفرَّد به عبد الرَّزَّاق عن مَعمر.
          قال الحافظُ العسقلاني: وقد رواه موسى بن عقبة في «المغازي» عن الزُّهري أيضًا، لكن لم يذكر أنسًا، وعنده بعد قوله:
قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيْلِهِ                     فِي صُحُفٍ تُتْلَى عَلَى رَسُوْلِهِ
          وذكره ابنُ إسحاق عن عبدِ الله بن أبي بكر بن حزم، قال: بلغني، فذكرَه وزاد بعد قوله:
يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيْلِهِ                       إِنِّي رَأَيْتُ الحَقَّ فِي قَبُوْلِهِ
          وزعم ابن هشام في «مختصر السيرة» أنَّ قوله:
نَحْنُ ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيْلِهِ
          إلى آخر الشِّعر من قول عمار بن ياسر، قاله يوم صفِّين، ويؤيِّده أنَّ المشركين لم يُقروا بالتَّنزيل، انتهى.
          وإذا ثبتت الرِّواية فلا مانعَ من إطلاق ذلك، فإنَّ التَّقدير على رأي ابن هشام: نحن ضربناكم على تأويله؛ أي: حتَّى تُذعنوا إلى ذلك التَّأويل. ويجوز أن يكون التَّقدير: نحن ضربناكم على تأويلِ ما فهمنا منه حتَّى تدخلوا فيما دخلنَا فيه، وإذا كان ذلك محتملًا وثبتت الرِّواية سقطَ الاعتراض، نعم الرِّواية الَّتي جاء فيها:
فاليوم نضربكم على تأويله
          يظهرُ أنَّها قول عمار، ويبعد أن تكون قول ابن رواحة؛ / لأنَّه لم يقع في عمرة القضاء ضربٌ ولا قتالٌ، وصحيح الرِّواية:
نَحْنُ ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيْلِهِ                     كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيْلِهِ
          يشيرُ بكلٍّ منهما إلى ما مضى، ولا مانعَ أن يتمثَّل عمَّار بن ياسر بهذا الرَّجز، ويقول هذه اللَّفظة. ومعنى قوله: نحن ضربْناكُم على تنزيله؛ أي: في عهد الرَّسول صلعم فيما مضى، وقوله: فاليوم نضربكُم على تأويله؛ أي: الآن، وجازَ تسكين الباء لضرورة الشِّعر، بل هي لغة قُرئ بها في المشهور، والله تعالى أعلم.
          والرواية الثانية: رواية عبد الرَّزَّاق عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنسٍ ☺ أخرجها البزَّار وقال: لم يروه عن ثابت إلَّا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس ☺، وأخرجها التِّرمذي والنَّسائي من طريقه بلفظ: أنَّ النَّبي صلعم دخل مكَّة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي، وهو يقول:
خَلُّوا بَنِي الكُفَّارِ عَنْ سَبِيْلِهِ                     اليَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيْلِهِ
ضَرْبًا يُزِيْلُ الهَامَ عَنْ مَقِيْلِهِ                     وَيُذْهِلُ الخَلِيْلَ عَنْ خَلِيْلِهِ
          فقال له عمر ☺: يا ابن رواحة! بين يدي رسول الله صلعم وفي حرم الله تقولُ الشِّعر؟ فقال له النَّبي صلعم : ((خلِّ عنه يا عمر، فلهو أسرعُ فيهم من نَضْح النَّبل)) (2) قال التِّرمذي: حديثٌ صحيحٌ غريبٌ، وقد رواه عبد الرّزَّاق عن مَعمر عن الزُّهري عن أنس نحوه قال: وفي غير هذا الحديث أنَّ هذه القصَّة لكعب بن مالك، وهو أصحُّ؛ لأنَّ عبد الله بن رواحة قُتلَ بمؤتة، وكانت عُمرة القضاء بعد ذلك.
          قال الحافظُ العسقلاني: وهو ذُهول شديدٌ وغلطٌ مردودٌ، ما أدري كيف وقع التِّرمذي في ذلك مع وفورِ معرفتهِ، ومع أنَّ في قصَّة عمرة القضاء اختصام جعفر وأخيه علي وزيد بن حارثة في بنتِ حمزة ♥ ، كما سيأتي في هذا الباب [خ¦4251]، وجعفر قُتِل هو وزيد وابن رواحة في موطنٍ واحدٍ، كما سيأتي قريبًا [خ¦4261]، فكيف يخفى عليه أعني التِّرمذي مثل هذا؟
          قال الحافظُ العسقلاني: ثمَّ وجدتُ عن بعضِهم أنَّ الَّذي عند التِّرمذي من حديث أنس ☺ أنَّ ذلك كان في فتحِ مكَّة، فإن كان كذلك اتَّجه اعتراضُه، والله تعالى أعلم.
          وقد صحَّحه / ابن حبَّان من الوجهين.
          وعجيبٌ من الحاكم كيف لم يستدركْه مع أنَّه من الوجه الأوَّل على شرطهما، ومن الوجه الثاني على شرطِ مسلم لأجل جعفر.


[1] في هامش الأصل: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة، واتَّفق خروجهم لعمرة القضاء فيه، وكرهوا أن يقاتلوهُم لحرمته، فقيل لهم: هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكة، فلا يبالوا به، {والحرمات قصاص} احتجاج عليه؛ أي: كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظَ عليها يجري فيه القصاص، فلمَّا هتكوا شهركُم بالصدِّ فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليه عنوةً، واقتلوهم إن قاتلوكم. قاضي.
[2] في هامش الأصل: وفي رواية: دعه يا عمر لهذا أشد عليهم من وقع النبل. منه.