نجاح القاري لصحيح البخاري

باب حديث بنى النضير

          ░14▒ (حَدِيثُ بَنِي النَّضِيرِ) ويروى: <باب حديث بني النَّضِير> بفتح النون وكسر الضاد المعجمة، وهم قبيلة كبيرة من يهود المدينة، وكانت قراهم على ميلين من المدينة، وكان بينهم وبين رسول الله صلعم عقد مُوادعة.
          قال المولى سعدي في «حاشية البيضاوي»: هم من أولاد الكاهن ابن هارون نزلوا قريباً من المدينة في فتن بني إسرائيل انتظاراً لمحمد صلعم ، وكان يُقال لهم ولبني قُرَيظة الكاهنان؛ لأنهم من أولاده أيضاً.
          وقال ابنُ إسحاق: قريظة والنَّضير والنحَّام وعَمرو، وهم أصول بنو الخزرج بن الصَّريح بن التُّومان بن السَّمِط بن اليسع بن سعد بن لاوي بن خير بن النَّحام بن تخور بن عازر بن عزرى [بن هارون] بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب، وهو إسرائيلُ بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرَّحمن ╕.
          وكان الكفَّار بعد الهجرةِ مع النَّبي صلعم على ثلاثة أقسام:
          قسم وادَعهم على أن لا يحاربُوه ولا يُمالؤوا عليه عدوَّه وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة والنضير وقينقاع.
          وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش.
          وقسم تاركوه وانتظروا ما يؤولُ إليه أمره كطوائف من العرب. فمنهم من كان يحبُّ ظهورَه في الباطنِ كخُزاعة، وبالعكس كبني بكر.
          ومنهم من كان معه ظاهراً ومع عدوِّه باطناً وهم المنافقون فكان أوَّل من نقضَ العهد من اليهود بني قينقاع فحاربهم في شوال بعد وقعة بدرٍ، فنزلوا على حكمهِ، فأراد قتلهم فاستوهبَهم منه عبد الله بن أُبيٍّ، وكانوا حلفاءه، فوهبهُم له وأخرجَهم من المدينة إلى أذْرِعات.
          ثمَّ نقضَ العهد بنو النَّضير كما سيأتي، وكان رأسهم حُيَي بن أخطب، ثم نقضتْ قريظة، كما سيأتي شرح حالهم بعد غزاة الخندق إن شاء الله تعالى [خ¦4117] [خ¦4118].
          (وَمَخْرَجُ) أي: خروج (رَسُولِ اللَّهِ صلعم إِلَيْهِم) أي: إلى بني النضير (فِي دِيَةِ الرَّجُلَيْنِ) كلمة «في» هنا للتعليل؛ أي: بسبب دية الرجلين، كما في قوله تعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف:32]، وفي الحديث: «أنَّ امرأةً دخلت النار في هرَّة» [خ¦3318] (وَمَا أَرَادُوا) عطف / على «ومخرج» (مِنَ الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلعم ) وكان الرجلان المذكوران من بني عامر على ما قاله ابن إسحاق، وقال ابنُ هشام: ثم من بني كلاب.
          وذكر أبو عُمر أنهما من بني سُليم فخرجا من المدينة متوجِّهين إلى أهلها ونزلا في ظلٍّ فيه عَمرو بن أمية الضَّمري، وكان معهما عقد وعهد من النَّبي صلعم ولم يعلم به عَمرو، وقد سألهما حين نزلا: ممَّن أنتما؟ فقالا: من بني عامرٍ، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهُما، وظنَّ أنَّه ظفر ببعضِ ثأر أصحابه.
          وذلك أنَّ عامر بن الطُّفيل أعتق عَمرو بن أمية لما قتل أهل بئر معونة عن رقبة كانت عن أمه، وكان عَمرو بن أمية مع المسلمين من أهل بئر معونة، فخرج عَمرو إلى المدينة فصادف الرَّجلين فقتلهما، ولما قدم عَمرو إلى النَّبي صلعم وأخبره قال: لقد قتلت قتيلين كان لهما مني جوار لَأَدِيَنَّهما، فخرجَ رسول الله صلعم إلى بني النَّضير مستعيناً بهم في دية القتيلين.
          قال ابنُ إسحاق: وكان بين بني النَّضير وبني عامر حلف وعقد، فقالوا: نعم يا أبا القاسم نُعينك، ثمَّ قالوا: اجلس حتى نطعمَ ونقوم ونتشاور، فنصلح أمرنا فيما جئتنا له، فقعد رسولُ الله صلعم وأبو بكر وعمر وعلي.
          وزاد أبو نُعيم: الزُّبير وطلحة وسعد بن معاذ وأُسيد بن حضير وسعد بن عبادة ♥ إلى جدارٍ من جُدرهم، ثمَّ خلا بعضُهم ببعض فقالوا: إنَّكم لن تجدوه على مثل حاله هذه، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيُلقي عليه هذه الصَّخرة فيقتلَه ويريحنَا منه، فانتدبَ لذلك عَمرو بن جِحاش _بكسر الجيم وتخفيف الحاء المهملة وبالشين المعجمة_ ابن كعب أحدهم، فقال: أنا لذلك، فصعدَ ليلقي عليه الصَّخرة. وهذا معنى قوله: «وما أرادوا من الغدر»، فأتى رسولَ الله صلعم الخبرُ من السَّماء بما أرادَ القوم، فقامَ مظهراً أنَّه يقضِي حاجة، وقال لأصحابه: لا تبرحوا ورجع مسرعاً إلى المدينة، واستبطأه أصحابه فأُخبروا أنَّه توجَّه إلى المدينة فلحقوا به.
          وقال ابنُ سعد: خرج إليهم رسول الله صلعم يستعينُهم يوم السبت في شهر ربيع الأول على رأس سبعة وثلاثين شهراً من المهاجرة بعد غزوة الرَّجيع، وأن ابن جِحاش لما همَّ ما همَّ به قال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليُخَبرنَّ بما هممتُم وإنَّه لنقضٌ العهد بيننا وبينه.
          ثمَّ أمر بحربهم والمسير إليهم فتحصَّنوا، / فأمر بقطع النَّخل والتَّحريق. وذكر ابنُ إسحاق أنَّه حاصرهم ستَّ ليالٍ وكان ناسٌ من المنافقين بعثوا إليهم أن اثبتوا وتمنَّعوا فإن قوتلتُم قاتلنَا معكم، فتربَّصوا فقذفَ الله في قلوبهم الرُّعب، فلم ينصروهُم فسألوا أن يُجلَوا عن أرضهم على أنَّ لهم ما حملتِ الإبل فصولحوا على ذلك.
          وروى البيهقي في «الدلائل» من حديث محمد بن مسلمة: أنَّ رسولَ الله صلعم بعثه إلى بني النَّضير أن اخرجوا من بلدي ولا تساكنوني بها، وقد هممتُم بما هممتُم به من الغدر، وأمره أن يؤجِّلهم في الجلاء ثلاثة أيام.
          ويروى أنَّه صلعم قال: «وقد أجَّلتكم عشراً فمن رُئِيَ بعد ذلك ضربتُ عنقه» فمكثوا أياماً يتجهزون فأرسل إليهم ابن أُبيٍّ فثبَّطهم، فأرسلوا إلى النَّبي صلعم : إنَّا لا نخرج فاصنعْ ما بدا لك، فقال صلعم : «الله أكبر حاربت يهودُ» فخرجَ إليهم فاعتزلتهم قريظة فلم تُعنهم وخذلهم ابن أُبيٍّ وحلفاؤهم من غطفان، فحاصرهُم خمسة عشر يوماً. وقال ابن الطَّلاع: ثلاثة وعشرين يوماً. وعن عائشة ♦: خمسة وعشرين يوماً. وقال ابنُ سعد: ثم أجلاهم فتحمَّلوا على ستمائة بعير. وقال ابن إسحاق: فاحتملوا إلى خيبر وإلى الشَّام قال: وحدَّثني عبد الله بن أبي بكر أنهم خلُّوا الأموال من الإبل والمزارع لرسولِ الله صلعم فكانت له خاصَّة، وقيل: كانت صفيًّا له حبساً لنوائبهِ ولم يخمِّسها ولم يُسهم منها لأحدٍ إلَّا لأبي بكر وعَمر وابن عوف وصُهيب بن سنان والزُّبير بن العوام وأبي سلمة بن عبد الأسد وأبي دُجانة.
          وقال ابنُ إسحاق: ولم يسلم منهم إلَّا يامين بن عُمير، وأبو سعيد بن وهب فأحرزا أموالهما.
          وروى ابن مَرْدويه قصَّة بني النَّضير بإسنادٍ صحيحٍ إلى مَعمر عن الزُّهري: أخبرني عبدُ الله بن عبد الرَّحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النَّبي صلعم قال: كتب كفَّار قريش إلى عبد الله بن أُبيٍّ وغيره ممَّن يعبدُ الأوثان قبل بدر يهدِّدونهم بإيوائهم النَّبي صلعم وأصحابه ويوعدونهم أن يَغزوهم بجميعِ العرب، فهمَّ ابن أُبيٍّ ومن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النَّبي صلعم / فقال: «ما كادكُم أحدٌ بمثل ما كادتكُم قريش يريدون أن يلقوا بأسكُم بينكم» فلمَّا سمعوا ذلك عرفوا الحقَّ فتفرَّقوا، فلمَّا كانت وقعة بدرٍ كتب كفَّار قريش بعدها إلى اليهود: إنَّكم أهل الحلقة والسَّلاح والحصون يتهدَّدونهم، فأجمع بنو النَّضير على الغدر، فأرسلوا إلى النَّبي صلعم اخرجْ إلينا في ثلاثة من أصحابك فنلقاكَ بثلاثة من علمائنا فإن آمنوا بك اتَّبعناك، ففعلَ، فاحتمل اليهود الثلاثة على الخناجرِ فأرسلت امرأة من بني النَّضير إلى أخٍ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمرِ بني النَّضير فأخبرَ أخوها النَّبي صلعم قبل أن يصلَ إليهم، فرجعَ وصحبهم بالكتائبِ فحصرهُم يومهم، وغدا على بني قريظة فحاصرهُم فعاهدُوه، فانصرفَ عنهم إلى بني النَّضير فقاتلهم حتَّى نزلوا على الجلاء، وعلى أنَّ لهم ما أقلَّت الإبل إلَّا السلاح، فاحتملوا على أثواب بيوتهم، وكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها ويحملون ما يوافقهم من حسنها، وكان جلاؤهم ذلك أوَّل حشر الناس إلى الشَّام، وكذا أخرجه عبد بن حميد في «تفسيره» عن عبد الرَّزَّاق.
          وفي ذلك ردٌّ على ابن التِّين في زعمه أنَّه ليس في هذه القصَّة حديث بإسناد.
          وقال الحافظ العسقلاني: فهذا أقوى ممَّا ذكره ابن إسحاق من أنَّ سبب غزوة بني النَّضير طلبه صلعم أن يُعينوه في دية الرَّجلين لكن وافق ابنَ إسحاق جلُّ أهل المغازي، فالله أعلم.
          وإذا ثبت أن سبب إجلاء بني النَّضير ما ذكر من همِّهم بالفتك به، وهمُّهم إنما وقع عندما جاء إليهم يستعين بهم في دية قتل عَمرو بن أمية تعيَّن ما قال الزُّهري، ولو لا ما ذكر من قصَّة عَمرو بن أميَّة لأمكن أن يكون كذلك في غزوة الرَّجيع.
          ويروى أيضاً: أنَّ رسولَ الله صلعم لما قدم المدينة صالحَ بني النَّضير على أن لا يكونوا له ولا عليهِ، فلمَّا ظهر يوم بدر قالوا: إنه النَّبي المنعوت في التوراة بالنُّصرة، فلمَّا هزم المسلمون يوم أُحد ارتابوا ونكثُوا، وخرجَ كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكَّة وحالفوا أبا سفيان، فأمر رسولُ الله صلعم أخا كعب من الرَّضاعة وهو محمد بن مَسلمة _بفتح الميم_ فقتله غيلة، ثم صبَّحهم بالكتائب وحاصرهم حتى صالحوا على الجلاءِ، فجلا أكثرهم إلى الشَّام، ولحقت طائفة بخيبر والحيرة، فأنزل الله سبحانه: {سَبَّحَ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:1-6].
          (قَالَ الزُّهْرِيُّ) هو: محمد بن مسلم بن شهاب (عَنْ عُرْوَةَ) أي: ابن الزُّبير بن العوام (كَانَتْ) أي: غزوة بني النضير (عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَبْلَ أُحُدٍ) وهذا التَّعليق وصله عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن مَعمر عن الزُّهري أتم من هذا، ولفظه عن الزُّهري وهو في حديثه عن عروة: ثمَّ كانت غزوة / بني النَّضير وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدرٍ، وكانت منازلهم ونخلهم في ناحية المدينة فحاصرهُم رسول الله صلعم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أنَّ لهم ما أقلَّت الإبل من الأمتعة والأموال إلَّا الحلقة _يعني: السلاح_ فأنزل الله فيهم: {سَبَّحَ لِلَّهِ} إلى قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:1-2] فقاتلهم حتى صالحهم على الجلاء فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبطٍ لم يصبهم فيما خلا جلاء، وكان الله قد كتبَ عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذَّبهم في الدُّنيا بالقتلِ والسَّبي وقوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} كان هو جلاء، وهو أوَّل حشرٍ حُشِر في الدنيا إلى الشام.
          (وَقَوْلُ اللَّهِ ╡) بالجر، أو بالرفع عطفاً على قوله: و«مخرج رسول الله صلعم » ({هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2]) وهذه الآية من سورة الحشر. قال ابنُ إسحاق: أنزل الله هذه السورة بكمالها في بني النَّضير، فيها ما أصابهم من نقمةٍ وما سلَّط عليه رسوله، وما عمل به فيهم، وقوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} أي: الجلاء، وذلك أنَّ بني النضير أوَّل من أُخرج من ديارهم، وقد أوضح المراد من ذلك أثر عبد الرَّزاق المذكور.
          واتَّفق أهل العلم على أنَّها نزلت في هذه القصَّة، قاله السُّهيلي. وقال أيضاً: ولم يختلفوا في أنَّ أموالَ بني النَّضير كلها كانت خاصَّة برسول الله صلعم وأنَّ المسلمين لم يُوجفوا عليهم بخيلٍ ولا ركابٍ، وأنَّهم لم يقعْ بينهم قتال أصلاً هذا.
          ولا علينا أنْ نفسِّر هذه الآية على طريق الاختصار، فنقول قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} أي: في أوَّل حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يُصبهم هذا الذُّل قبل ذلك، أو في أوَّل حشرهم للجلاء إلى الشَّام وآخر حشرهم إجلاءُ عمر ☺ إيَّاهم من خيبر إليه، أو في أوَّل حشر النَّاس إلى الشَّام، مع قطع النَّظر عن كون المحشور خصوص بني النَّضير وآخر حشرهم أنهم يحشرون إليها عند قيام السَّاعة.
          {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} لشدَّة بأسهم ومنعتهم / {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: أنَّ حصونهم تمنعهم من بأس الله. وتغيير النَّظم وتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدَّلالة على فرطِ وُثُوقهم بحصانتهَا واعتقادهِم في أنفسهِم أنَّهم في عزَّة ومنعةٍ بسببها، ويجوز أن تكون «حصونهم» فاعلاً «لمانعتهم» {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ} أي: عذابه على إضمار المضاف وهو الرُّعب والاضطرار إلى الجلاء، وقيل: الضَّمير للمؤمنين؛ أي: فأتاهم نصر الله، وقرئ: <فآتاهم>؛ أي: العذاب أو النَّصر.
          {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} لقوَّة وثوقهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} وأثبتَ فيها الخوف الذي يُرعبها؛ أي: يملأها {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} ضنًّا بها على المسلمين، وإخراجاً لما استحسنوا من آلاتها {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} فإنهم أيضاً كانوا يخربون ظواهرها نكاية وتوسيعاً لمجال القتال، وعطفها على أيديهم من حيث إنَّ تخريبَ المؤمنين مسبَّب عن بغضِهم، فكأنَّهم استعملوهم فيه، والجملةُ حال أو تفسير. وقرأ أبو عَمرو: {يخرِّبون} [الحشر:2] بالتشديد، وهو أبلغ لما فيه من التَّكثير، وقيل: الإخراب: التَّعطيل، أو ترك الشَّيء خراباً، والتَّخريب: الهدم.
          {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] فاتَّعظوا بحالهم، فلا تغدروا ولا تعتمدوا على غير الله {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} [الحشر:3] الخروج من أوطانهم {لعذَّبَهُمْ في الدُّنْيا} بالقتل والسَّبي، كما فعل ببني قريظة {وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر:3] استئناف معناه: إنَّهم إنْ نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة.
          (وَجَعَلَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ) أي: وجعل قتال بني النَّضير، محمد بن إسحاق صاحب «المغازي» (بَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ) وكانت بئر مَعونة في صفر من سنة أربع من الهجرة (وأُحُد) قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلعم بعد أُحُد بقيَّة شوال وذا القعدة وذا الحجَّة والمحرم، ثمَّ بعث بأصحابِ بئر مَعونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أُحُد.
          وقال موسى بنُ عقبة: كان أمير القوم المنذر بن عَمرو، ويقال: مَرثد بن أبي مرثد، ووقع / في رواية القابسي: <وجعله إسحاق>. وقال القاضي عياض: وهو وهم، والصَّواب: ابن إسحاق، وهو كما قال إذ هو محمد بن إسحاق بن يسار وقد وهم الكرماني أيضاً حيث قال: أي جعل قتال بني النَّضير محمد بن إسحاق بن نَصْر _بفتح النون وسكون المهملة_ وليس كما قال؛ لأنه ابن يسار لا ابن نصر، وإنما ابن نصر هو الذي يجيءُ في الإسناد الآتي [خ¦4028].
          ثم إنَّه حكى ابن التِّين عن الدَّاودي أنه رجَّح ما قال ابن إسحاق من أنَّ غزوة بني النَّضير بعد بئر معونة مستدلاً بقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب:26] قال: وذلك في قصَّة الأحزاب.
          قال الحافظُ العسقلاني: وهو استدلال واهٍ فإنَّ الآية نزلتْ في شأن بني قريظة فإنَّهم هم الذين ظاهروا الأحزاب، وأمَّا بنو النَّضير فلم يكن لهم في الأحزاب ذكر بل كان من أعظم الأسباب في جمع الأحزاب ما وقع من إجلائهم، فإنَّه كان من رؤوسهم حُيي بن أخطب وهو الذي حسَّن لبني قريظة الغدرَ وموافقة الأحزاب، كما سيأتي، [خ¦4112] [خ¦4113] حتى كان من هلاكهم ما كان، فكيف يصير السَّابق لاحقاً، والله تعالى أعلم.