نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أما إنه من أهل النار

          4202- (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) أي: ابن سعيد، قال: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ) هو: ابن عبد الرَّحمن الاسكندراني (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هو: سلمةُ بن دينار (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ☻ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم / الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا) وفي رواية ابن أبي حازم الآتية بعد قليل «في بعضِ مغازيه» [خ¦4207]، قال الحافظُ العسقلاني: ولم أقف على تعيين كونها خيبر؛ لكنَّه مبنيٌّ على أن القصَّة الَّتي في حديث سهل [خ¦4202] متَّحدة مع القصَّة الَّتي في حديث أبي هريرة ☻ [خ¦6606].
          وقد صرَّح في حديث أبي هريرة ☺ أنَّ ذلك كان بخيبر، وفيه نظرٌ فإن في سياق سهل أنَّ الرجل قتلَ نفسه إتكاءً على سيفه حتَّى خرج من ظهره، وفي سياق أبي هريرة أنَّه استخرج أسهمًا من كنانته فنحرَ بها نفسه، وأيضًا ففي حديث سهل أنَّ النَّبي صلعم قال لهم لما أخبروه بقصته: ((إنَّ الرجل ليعمل بعملِ أهل الجنَّة)) الحديث.
          وفي حديث أبي هريرة أنَّه قال لهم لما أخبروه بقصَّته: ((قمْ يا بلال فأذن أنَّه لا يدخل الجنَّة إلَّا مؤمنٌ))، ولهذا جنح ابن التِّين إلى التَّعدد. ويُمكن الجمع بأنَّه لا منافاةَ في المغايرة الأخيرة، وأمَّا الأولى فيُحتمل أن يكون نحرَ نفسه بأسهمه فلم تزهقْ روحه، وإن كان قد أشرف على القتل، فاتَّكأ حينئذٍ على سيفه استعجالًا للموت.
          لكن جزم ابنُ الجوزي في «مُشكله» بأنَّ القصَّة الَّتي حكاها سهل بن سعد وقعتْ بأُحُد قال: واسم الرجل قُزْمان الظَّفَري، وكان قد تخلف عن المسلمين يوم أُحُد فعيّره النساء، فخرج حتَّى صار في الصف الأول، فكان أوَّل من رمى بسهم، ثمَّ صار إلى السيف ففعلَ العجائب، فلمَّا انكشفَ المسلمون كسر جفن سيفهِ، وجعل يقول: الموتُ أحسنُ من الفرار، فمرَّ به قتادة بن النُّعمان فقال له: هنيئًا لك بالشَّهادة قال: إني والله ما قاتلتُ على دينٍ، إنما قاتلتُ على حسبِ قومي، ثمَّ أقلقته الجراحةُ فقتلَ نفسه.
          قال الحافظُ العسقلاني: وهذا الَّذي نقله أخذه من «مغازي» الواقدي، وهو لا يحتج به إذا انفردَ فكيف إذا خالفَ. والظَّاهر أنَّه لا وجه لذكر هذا الحديث هنا؛ لأنَّه ليس فيه تعلُّق ما بغزوة خيبر ظاهرًا، كما قال العيني، والله تعالى أعلم.
          (فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم إِلَى عَسْكَرِهِ) أي: فلمّا رجع بعد فراغ القتال في ذلك اليوم (وَمَالَ / الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ) ويُروى: <النَّبيّ> ( صلعم رَجُلٌ) وقع في كلام جماعة ممن تكلَّم على هذا الكتاب أن اسمه قُزْمان _بضم القاف وإسكان الزاي_ الظَّفَري _بفتح المعجمة والفاء_ نسبة إلى بني ظَفر بطنٌ من الأنصار، وكان يُكنى: أبا الغَيْداق _بفتح الغين المعجمة وسكون المثناة التحتية وبالدال المهملة وآخره قاف_ (لَا يَدَعُ) أي: لا يترك (لَهُمْ شَاذَّةً) بالشين المعجمة وتشديد الذال المعجمة، وهو الَّذي ينفردُ عن الجماعة؛ أي: الَّذي يكون مع الجماعة ثمَّ يُفارقهم (وَلَا فَاذَّةً) بالفاء، هو الَّذي لم يكن قد اختلطَ بهم، وهما صفتان لمحذوف؛ أي: لا يدع نسمةً شاذَّة ولا نسمةً فاذَّة. ويجوز أن تكون التاء للمبالغة كما في علَّامة ونسَّابة، وقيل: المراد بالشَّاذ والفاذ ما كبر وصغُر، وقيل: الشَّاذ: الخارجُ، والفاذ: المنفرد، وقيل: هما بمعنى، وقيل: الثاني اتِّباع، والمعنى أنَّه لا يلقى شيئًا إلَّا قتله.
          (إِلَّا اتَّبَعَهَا، يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقِيلَ) ويُروى: <فقال>؛ أي: قائل، وتقدَّم في الجهاد [خ¦2898] (1) بلفظ: ((فقالوا))، ويأتي بعد قليل من طريق أخرى بلفظ: ((فقيل)) أيضًا [خ¦4202]، ويُروى أيضًا: <فقلتُ>، فإن كانت محفوظة عُرِف اسم قائل ذلك.
          (مَا أَجْزَأَ) بالهمز؛ أي: ما أغنى وما كفى (مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ) أي: ما كفى أحدٌ منا في اليوم مثل كفايتهِ، وما سعى مثل سعيهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) وفي رواية ابنِ أبي حازم الآتية [خ¦4207] ((فقالوا: أيُّنا من أهل الجنَّة إن كان هذا من أهل النَّار؟)). وفي حديث أكثم بن أبي الجَوْن الخُزاعي عند الطَّبراني قال: قُلنا: يا رسول الله! إذا كان فلانٌ في عبادتهِ واجتهادِهِ ولين جانبهِ في النار فأين نحن؟ قال: ((ذلك أخباث (2) النِّفاق)) قال: قلنا: نتحفَّظُ عليه في القتال.
          (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ) أي: أنا أصاحبه وألازمه حتَّى أرى مآل حالهِ، وفي رواية ابن أبي حازم: ((لأتَّبعنَّه)) وهذا الرجل هو أكثمُ بن أبي الجَوْن، كما سيظهر من سياق حديثه.
          (قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ / مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ) على البناء للمفعول (جُرْحًا شَدِيدًا) وزاد في حديث أكثم: «فقلنا: يا رسول الله! قد استُشهدَ فلان»، قال: ((هو في النار)) (فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ سَيْفَهُ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ) بضم الذال المعجمة؛ أي: طرفه الحد (بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ) وفي رواية ابنِ أبي حازم: ((فوضعَ نِصابَ سيفهِ بالأرض)). وفي حديث أكثم: أخذ سيفه فوضعه بين ثدييه، ثمَّ اتَّكأ عليه حتَّى خرجَ من ظهرهِ، فأتيتُ النَّبيّ صلعم فقلتُ: أشهدُ أنَّك رسول الله.
          (قَالَ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ، ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهْوَ مِنَ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) زاد في حديث أكثم: ((تُدركه الشَّقاوة والسَّعادة عند خروج نفسه فيُختمُ له بها))، وسيأتي بيان ذلك في كتاب القدر، إن شاء الله تعالى [خ¦6606].
          وقد مرَّ الحديث في كتاب الجهاد، في باب لا يُقال: فلانٌ شهيدٌ سندًا ومتنًا [خ¦2898]، وقد مرَّ الكلام فيه أيضًا، واعلم أنَّه قد وقعَ في بعضِ الأصول قبل هذا الحديث حديث أبي موسى الأشعريِّ ☺ الآتي بعد حديث أبي هريرة ☺ [خ¦4205]، وكذلك وقع في «فتح الباري» و«شرح الكرماني» أيضًا.


[1] إلا أنه بلفظ فقال يحرر.
[2] كذا في الفتح، وفي الطبراني ومجمع الزوائد وغيره (إخبَات).