نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث أبي هريرة: افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهبًا ولا فضة

          4234- (حَدَّثَنَا) ويُروى: <حدَّثني> (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هو: الجُعفيُّ المعروف بالمسندي، قال: (حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو) أي: ابن المهلب الأزدي البغدادي، وأصلُه كوفي، وهو من مشايخِ البخاري، روى عنه هنا بالواسطة، وروى عنه في الجمعة بلا واسطة [خ¦936]، قال: (حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ) هو: إبراهيمُ بن محمد بن الحارث الفَزَاري، ووقع في مسند حديث مالك للنَّسائي من وجه آخر عن معاوية بن عَمرو قال: حدَّثنا أبو إسحاق، وأخرجه الدَّارقطني في «الموطآت» من طريق المسيَّب بن واضح قال: حدَّثنا أبو إسحاق الفَزَاري.
          (عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ) أنَّه (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (ثَوْرٌ) بلفظ الحيوان المشهور، هو ابنُ يزيد أبو خالد الكلاعي الشَّامي حمصي، مات ببيت المقدس سنة خمس وخمسين ومائة، وهو من أفراد البخاري.
          وقال الحافظُ العسقلاني: هو الدِّيلي مدنيٌ مشهورٌ، وقد نزل البخاري في هذا الحديث درجتين؛ لأنَّه أخرجه في الأيمان والنُّذور [خ¦6707] عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك، وبينه وبين مالك في هذا الموضع ثلاثة رجال.
          قال ابنُ طاهر: والسِّرُّ في ذلك: أنَّ في رواية أبي إسحاق الفَزَاري وحدَه عن مالك: حدَّثني ثور بن زيد. وفي رواية الباقين: عن ثور، وللبخاريِّ ☼ حرصٌ شديد على الإتيان بالطُّرق المصرَّحة بالتَّحديث، انتهى.
          وأيضًا قد صرَّح في رواية أبي إسحاق هذه بقوله: ((حدَّثني سالم أنَّه سمع أبا هريرة ☺)) وعنعن باقي الرُّواة عن مالك جميع الإسناد.
          (حَدَّثَنِي سَالِمٌ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ) هو: أبو الغيث مولى عبد الله بن مُطيع بن الأسود القرشي العدوي المدني، وهو بكنيته اشتهر، وقد سُمِّي هنا فلا التفاتَ لقول من قال: إنَّه لا يوقف على اسمه صحيحًا، وهو مدنيٌّ لا يُعرف اسم أبيه، وليست لسالم في الصَّحيح رواية عن غير أبي هريرة ☺، له عنه سبعة أحاديث تقدَّم منها في الاستقراض [خ¦2387]، وفي الوصايا [خ¦2766]، / وفي المناقب [خ¦3329]، كذا قال الحافظُ العسقلاني. وقال العينيُّ: روى عن أبي هريرة ☺ حديثًا واحدًا.
          (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ يَقُولُ: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ) وفي رواية عُبيد الله بن يحيى بن يحيى عن أبيهِ في «الموطأ»: (حُنين) بدل: (خيبر)، وخالفه محمد بنُ وضَّاح عن يحيى بن يحيى فقال: (خيبر) مثل الجماعة، نبَّه عليه ابن عبدِ البر، ووقع في رواية إسماعيل المذكورة: «خرجنَا مع النَّبي صلعم إلى خيبر»، وهي رواية رواة «الموطأ»، أعني قوله: (خرجنا)، وأخرجها مسلم من طريق ابن وهب عن مالك، ومن طريق عبد العزيز بن محمد الدَّراوردي عن ثور، فحكى الدَّارقطني عن موسى بن هارون أنَّه قال: وَهَمَ ثورٌ في هذا الحديث؛ لأنَّ أبا هريرة رضي لله عنه لم يخرج مع النَّبي صلعم إلى خيبر، وإنما قدم بعد خروجهم، وقدم عليهم خيبر بعدما افتتحوها، قال: لكن لا يشك أحدٌ أنَّ أبا هريرة ☺ حضرَ قسمة الغنائم، فالغرضُ من الحديث قصة مِدْعَم في غلول الشَّملة.
          قال الحافظُ العسقلاني: وكأن محمد بن إسحاق صاحب «المغازي» استشعر بوهم ثور بن زيد في هذه اللَّفظة، فروى الحديث عنه بدونها، أخرجه ابن حبَّان والحاكم وابن مندهْ من طريقه بلفظ: انصرفنَا مع رسول الله صلعم إلى وادِي القُرى. ورواية أبي إسحاق الفَزَاري الَّتي في هذا الباب تسلم من هذا الاعتراض بأن يُحمل قوله: (افتتحنا)؛ أي: المسلمون. وقد تقدَّم نظير ذلك قريبًا.
          وروى البيهقي في «الدلائل» من وجه آخر عن أبي هريرة ☺ قال: خرجنا مع النَّبي صلعم من خيبر إلى وادي القُرى.
          فلعلَّ هذا أصل الحديث، وحديث قدوم أبي هريرة المدينة والنَّبي صلعم بخيبر، أخرجَه أحمدُ وابن خزيمة وابن حبَّان والحاكم من طريق خُثيم بن عِراك بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة قال: قدمتُ المدينة والنَّبي صلعم بخيبر، وقد استخلفَ سِباع بن عُرْفطة، فذكر الحديث، وفيه: فزودنا شيئًا حتَّى أتينا خيبر، وقد افتتحها النَّبي صلعم فكلّم المسلمين فأشركونا في سهامهم.
          والجمع بين هذا وبين الحصر الَّذي في حديث أبي موسى ☺ الَّذي قبله: أنَّ أبا موسى ☺ أراد أنَّه لم يُسهم لأحدٍ لم يشهد الوقعة / من غير استرضاءِ أحدٍ من الغانمين إلَّا أصحاب السَّفينتين(1) . وأمَّا أبو هريرة ☺ وأصحابه فلم يُعطهم إلَّا عن طيب خواطرِ المسلمين، والله تعالى أعلم.
          (وَلَمْ نَغْنَمْ) ويُروى: <فلم نغنمْ> (ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ) جمع حائطٍ، وهو البستانُ من النَّخل، وفي رواية مسلم: ((غنمنا المتاع والطَّعام والثِّياب)) وعند رواة «الموطأ»: ((إلَّا الأموال والثِّياب والمتاع)) وعند يحيى بن يحيى اللَّيثي وحدَه: ((إلَّا الأموال والثياب))، والأوَّل هو المحفوظ، ومقتضاهُ أن الثَّياب والمتاع لا تُسمَّى مالًا.
          وقد نقلَ ثعلبُ عن ابنِ الأعرابي عن المُفَضّل الضَّبِّي قال: المال عند العرب الصَّامت والنَّاطق، فالصَّامت: الذَّهب، والفضَّة، والجوهر، والنَّاطق: البعير والبقرُ والشَّاة، فإذا قلت عن حضرِي: كثرَ ماله، فالمراد الصَّامت، وإذا قلت عن بدوي، فالمراد النَّاطق، انتهى.
          وقد أطلقَ أبو قتادة على البستان مالًا فقال في قصَّة السَّلب الَّذي تنازع فيه هو والقرشي في غزوة حُنين: فابتعتُ به مُخْرفًا، فإنَّه لأول مال تأثَّلته، فالَّذي يظهرُ أنَّ المال ما له قيمة، لكن قد يغلبُ على قوم تخصيصه بشيءٍ كما حكاه المفضَّل، فتحمل الأموال على المواشي والحوائط الَّتي ذُكرت في رواية الباب، ولا يراد بها النُّقود؛ لأنَّه نفاها أولًا.
          (ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ) ويُروى: <مع رسول الله> ( صلعم إِلَى وَادِي الْقُرَى) جمع قرية، موضعٌ بقرب المدينة، وهو من أعمالها (وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ) وفي رواية «الموطأ»: ((عبد أسود)) (يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ) بكسر الميم وسكون الدال وفتح العين المهملتين (أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ) كذا في رواية أبي إسحاق: بكسر الضاد المعجمة وبموحدتين الأولى خفيفة بينهما ألف، بلفظ جمع الضب. وفي رواية مسلم: ((أهداه له رِفاعة بن زيد أحدُ بني الضُّبيب)) بضم أوله على صيغة التَّصغير، وفي رواية ابن إسحاق: رفاعة بن زيد الحُذامي / ثمَّ الضُّبَيني (2) بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة بعدها نون، وقيل: بفتح المعجمة وكسر الموحدة، بطن من جُذام، وضبطه الكرمانيُّ: بضم المعجمة وفتح الموحدة الأولى وكسر الثانية وسكون التحتية بينهما، وكذا ضبطه الرُّشَاطي.
          وقال ابنُ حبيب: في جذام الضُّبيب. ولم يزد شيئًا، وذكر أبو عمر: رفاعة بن زيد بن وهب الجِذَامي ثمَّ الضُّبيبي من بني الضُّبيب قال: هكذا يقول أهلُ الحديث. وأمَّا أهلُ النَّسب فيقولون: الضَّبَيني، يعني: بالنون في آخره، من بني الضُّبين بن جذام، قال: ولم أر هذا القول لأحدٍ.
          وقال أبو علي القالي: صوابه الضَّبَيني؛ يعني: بفتح الضاد والباء الموحدة وبالنون، من بني ضَبِينة من جذام. هذا وأنت خبيرٌ بأن النِّسبة إلى لفظ فعيلة فَعَلى، مثل: حَنَفي نسبةً إلى بني حَنِيفة، وكذلك الضبيني فافهم، فإنَّه موضع التباس.
          وقال الكرمانيُّ: وفي جلِّ النُّسخ بل كلها أحد بني الضِّباب بدل الضُّبيب لكن المشهور عند القوم هو الضُّبيب، وقال الواقديُّ: قدم على رسول الله صلعم رفاعة بن زيد بن وهب الجُذامي ثمَّ الضبيبي في هدنة الحديبية قبل خيبر في جماعة من قومهِ، فأسلموا وعقدَ له رسول الله صلعم على قومهِ، وهو الَّذي أهدى له عبدًا. وقد اختلف هل أعتقَه رسول الله صلعم أو مات رقيقًا له.
          (فَبَيْنَا هُوَ) أي: مِدْعَم (يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلعم ) وزاد البيهقيُّ: وقد استقبلتنا يهودُ بالرمي ولم نكن علي تعبئة (إِذْ جَاءَهُ) كلمة (إذ) للمفاجأة جواب قوله: فبينا (سَهْمٌ عَائِرٌ) بعين مهملة وهمزة بعد الألف، بوزن فاعل؛ أي: حائد عن قصده، وقيل: هو سهمٌ لا يُدرى من أين أتى ومن رمى به.
          (حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : بَلْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) وفي رواية الكُشميهني: <بلى> وهو تصحيفٌ، وفي رواية مسلم: ((كلا)) وهو رواية «الموطأ» (إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ) الشَّملة: كساءٌ يشتملُ به الرجل، ويجمع على الشِّمال (مِنَ الْمَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، / لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا) خبر (إنَّ) واللام المفتوحة فيه للتأكيد، يُحتمل أن يكون اشتعال النَّار حقيقة بأن تصيرَ الشَّملة نفسها ناراً فيعذِّب بها، ويُحتمل أن يكون المراد أنَّها سبب لعذابِ النَّار، وكذا القولُ في الشِّراك الآتي ذكره، وذلك هو الغُلول الَّذي أوعد الله عليه قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161].
          (فَجَاءَهُ رَجُلٌ) لم أقف على اسمه، كذا قال الحافظُ العسقلاني (حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلعم بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ) الشِّرَاك: بكسر المعجمة وتخفيف الراء، هو سيرُ النَّعل على ظهر القدم، والباء في قوله: ((بشراك)) للتَّعدية، وقوله: ((أو شراكين)) شكٌ من الرَّاوي (فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ) وفي نسخة: <أو شراكين> وهو على سبيل الحكاية من لفظه.
          (مِنْ نَارٍ) وفي الحديث تعظيم أمر الغُلول، وقد مرَّ بيان ذلك في أواخر كتاب الجهاد، في باب القليل من الغلول في الكلام على حديث عبد الله بن عمر ☻ [خ¦3074]، وقصَّته مع قصَّة مدْعم متَّحدة. قال الحافظُ العسقلاني: والَّذي يظهر تغايُرَهما، نعم عند مسلم من حديث عمر ☺: لما كان يوم خيبر، قالوا: فلانٌ شهيد؟ فقال النَّبي صلعم : ((كلَّا إنِّي رأيتُه [في النار] في بُرْدة غلَّها أو عباءة)) فهذا يُمكن تفسيره بكُرْكَرة؛ بخلاف قصَّة مِدْعم؛ لأنَّها كانت بوادي القُرى، ومات بسهم عائرٍ، وغَلَّ شملة، والَّذي أهدى للنَّبي صلعم كَرْكَرةَ هَوذةُ بن علي؛ بخلاف مِدْعم هذا فأهداهُ رفاعة فافترقا، والله تعالى أعلم.
          وذكر البيهقي في روايته: أنَّه صلعم حاصر أهلَ وادي القُرى حتَّى فتحها، فبلغَ ذلك أهل تيماء فصالحوه، وفي الحديث قبول الإمام الهديَّة، فإن كانت لأمرٍ يختص به في نفسه أن لو كان غير والٍ فله التَّصرف فيها بما أراد، وإلَّا فلا يتصرَّف فيها إلَّا للمسلمين.
          وعلى هذا التَّفصيل يُحملُ حديث هدايا الأمراء، وخالف في ذلك بعضُ الحنفية، فقالوا: له الاستبداد مطلقًا بدليل أنَّه لو ردَّها على مهديها لجازَ، فلو كانت فيئًا للمسلمين لما ردَّها. وقد تقدَّم شيءٌ من هذا في أواخر «الهبة» [خ¦2597].
          ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرةٌ.
          وقد أخرجه البخاري في الأيمان والنذور / أيضًا [خ¦6707]، وأخرجه مسلم وأبو داود والنَّسائي في السير.


[1] في الفتح: (السفينة).
[2] كذا في العمدة، وفي الفتح الضبني.