نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث كعب بن مالك

          ░79▒ (حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) أي: هذا بيان حديث كعب بن مالك بن أبي كعب، واسمه: عَمرو بن القين بن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن عدي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الأنصاري السَّلَمي _بفتح المهملة واللام_، يُكنى: أبا عبد الله، شهد العقبة الثانية، واختلف في شهوده بدرًا، وشهد أحدًا والمشاهد كلَّها حاشا تبوك، فإنَّه تخلف عنها، وكان أحد الشُّعراء في الجاهلية، وتُوفي في خلافة معاوية ☺ سنة خمسين. وقيل: سنة ثلاث وخمسين، وهو: ابنُ سبع وسبعين، وكان قد عميَ في آخر عمره، ويعد في المدنيين، روى عنه جماعة من التَّابعين ☺.
          (وَقَوْلُ اللَّهِ ╡: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]) والآية في آخر سورة / التوبة، قال الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وهم كعبُ بن مالك، وهلالُ بن أميَّة، ومُرَارة بن الرَّبيع، الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك، كما سيجيءُ قصَّتهم، فتابَ الله عليهم وعذرهُم، وأنزل في حقِّهم: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} أي: عن غزوة تبوك، وهو عطف على ما قبله، وهو قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة:117].
          قال مجاهد: الآية نزلت في غزوة تبوك؛ أي: تجاوزَ الله وصفحَ عمَّا فَرَّط وصَدَر عنه صلعم ، وعن المؤمنين ممَّا يُعدُّ زلَّة في حقِّهم أي شيء كان لما أصابهم في تلك الغزوة من الشَّدائد.
          قال الإمام: الإنسان طول عُمره لا ينفكُّ عن زلَّات إمَّا من باب الصَّغائر، أو من باب ترك الأولى، وقيل: ذكر التَّوبة على النَّبي صلعم مفتاح كلام لأنَّه لما كان سبب توبة التَّائبين ذكر معهم كقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]. وقيل: معناه تابَ الله عليه من إذن المنافقين في التَّخلف عنه كقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}(1) [التوبة:43] وقيل: معناه برَّأهم عن علقة الذُّنوب؛ أي: عمَّا تعلَّق بهم ممَّا يعدُّ ذنبًا في حقِّهم، فإن ترك الأولى يعدُّ ذنبًا في حقِّه صلعم كقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمَّد:19].
          وقيل: هو بعث على التَّوبة، والمعنى: ما من أحد إلَّا وهو محتاجٌ إلى التوبة، حتَّى النَّبي صلعم والمهاجرون والأنصار كقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} [النور:31] إذ ما من أحدٍ إلَّا وله مقامٌ يستنقصُ دونه ما هو فيه، والتَّرقي إليه توبة من تلك النَّقيصة وإظهار لفضلها، لأنَّها مقام الأنبياء والصَّالحين من عباده {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117] في وقتها، وهي حالُهُم في غزوة تبوك، كانوا في عُسرة الظَّهر يعتقبُ العشرةُ على بعيرٍ واحدٍ والزاد، حتَّى قيل: إنَّ الرَّجلين / كانا يقتسمان التَّمرة والماء حتَّى شربوا ماء الكرش {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} عن الثَّبات على الإيمان واتِّباع الرَّسول، وفي كاد ضمير الشَّأن أو ضمير القوم، والعائد عليه الضَّمير في {مِنْهُمْ} {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:117] تكرير للتَّأكيد وتنبيه على أنَّه تاب عليهم من أجلِ ما كابدوا من العُسرة، أو المراد أنَّه تاب عليهم لكيدودتهم، فإنَّه إذا قيل: عفا السُّلطان على فلان، ثمَّ عفا عنه، ودلَّ على أنَّ ذلك العفو مؤكَّد بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوَّة، وهذه التَّوبة المتأكدة لما علقت بمكابدتهم الشَّدائد في ساعة العُسْرة كان التكرير تنبيهًا على العلية.
          {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117] ثمَّ قال الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:118] أي: برحبها وسعتهَا لإعراض النَّاس عنهم بالكلِّية، وهو مثلٌ لشدَّة الحيرة {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} قلوبهم من فرطِ الوحشة والغم، بحيث لا يسعها أنسٌ وسرورٌ {وَظَنُّوا} أي: وعلموا {أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} أي: من سخطه {إِلَّا إِلَيْهِ} أي: إلَّا إلى استغفاره {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} بالتَّوفيق للتَّوبة {لِيَتُوبُوا} أو أنزلَ قبول توبتهم ليعدوا من جملة التَّائبين، أو رجعَ عليهم بالقبول والرَّحمة مرَّة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ} لمن تاب، ولو عاد في اليوم مائة مرَّة {الرَّحِيمُ} [التوبة:118] المتفضِّل عليهم بالنِّعم.
          وعن أبي بكر الورَّاق أنَّه سُئل عن التَّوبة النَّصوح فقال: أن تضيقَ على التَّائب الأرض بما رَحُبت، وتضيق عليه نفسه كتوبةِ كعب بن مالك وصاحبيهِ.


[1] في هامش الأصل: والإذن وإن صدرَ عنه صلعم وحده إلَّا أنَّه أسند إلى الكلِّ على طريقةِ قولهم: بنو فلان قتلوا زيدًا وإن كان القاتل واحدًا منهم يقولون ذلك على وقوع القتل بينهم. منه.