نجاح القاري لصحيح البخاري

باب غزوة بني المصطلق من خزاعة

          ░32▒ (غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ) ويُروى: <باب غزوة بني المصطلق> بزيادة لفظ: «باب». والمُصْطَلِق: بضم الميم وسكون الصاد المهملة وفتح الطاء المهملة وكسر اللام وآخره قاف، وهو لَقَبٌ من الصَّلق وهو رفع الصَّوت. وأصله: مصتلق فأبدلت الطاء من التاء لأجل الصاد، واسمه: جُذَيمة بن سعد بن عَمرو بن ربيعة بن حارثة بطن (مِنْ خُزَاعَةَ) بضم الخاء المعجمة وتخفيف الزاي وفتح العين المهملة. وخُزَاعة هو ربيعة بن حارثة بن عَمرو مُزَيْقِيَاء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغِطْرِيف بن امرئ القيس بن ثَعْلبة بن مازن بن الأزد، وقيل لهم: خُزاعة لأنَّهم تَخَزّعوا من بني مازن بن الأزد في إقبالهم معهم من اليمن؛ أي: انقطعوا عنهم.
          (وَهْيَ غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ) أي: غزوة بني المُصْطَلِق، هي غزوة المُرَيْسِيع: بضم الميم وفتح الراء وسكون التحتانيتين بينهما سين مهملة مكسورة وآخره عين مهملة، وهو ماءٌ لبني خُزَاعة من ناحية قَدِيد ممَّا يلي السَّاحل، بينه وبين الفُرْع نحو من يومين، وبين الفُرْع والمدينة ثمانية برد من قولهم: رَسَعت عين الرَّجل إذا دَمَعت من فساد. وقال أبو نصر: الرَّسع فسادٌ في الأجفان. وقد روى الطَّبراني من حديث سفيان (1) بن وَبرة، قال: كنَّا مع النَّبي صلعم في غزوة المُريسيع غزوة بني المُصْطَلِق.
          (قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمدُ بن إسحاق صاحب المغازي (وَذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ) من الهجرة، كذا هو في رواية «المغازي» من رواية يونس بن بُكير وغيره، وقال في شعبان، وبه جزمَ خليفة والطَّبري. وقال في «السيرة» بعدما أورد قصَّة ذي قَرَد: فأقام رسولُ الله صلعم بالمدينة بعد جمادى الآخرة ورجبًا، ثمَّ غزا بني المُصْطَلِق من خُزاعة في شعبان سنة ستٍّ.
          وروى البيهقي من رواية قَتَادة وعروة وغيرهما: أنَّها كانت في شعبان سنة خمسٍ، / وكذا ذكرها أبو مَعْشَر قبل الخندق. وقال ابنُ هشام: واستعملَ على المدينة أبا ذرٍّ الغفاري ☺، ويقال: نُمَيلة بن عبد الله اللَّيثي.
          وقال ابنُ سعد: ندبَ رسولُ الله صلعم النَّاسَ إليهم فأسرعوا الخروجَ وقادوا الخيل، وهي ثلاثون فرسًا، في المهاجرين منها عشرة، وفي الأنصار عشرون، واستخلفَ على المدينة زيدَ بن حارثة وكان معه؛ أي: مع النَّبي صلعم فرسان لِزَاز والظَّرِب.
          وقال الصَّنعاني: كان أبو بكر ☺ حاملُ راية المهاجرين، وسعد بن عبادة ☺ حاملُ راية الأنصار، فقتلوا منهم عشرة وأسروا سائرهم.
          (وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ) كذا ذكره البخاريُّ، قال الحافظُ العسقلانيُّ: وكأنَّه سَبْق قَلَمٍ أراد أن يكتبَ سنة خمس فكتب سنة أربع. والَّذي في «مغازي موسى بن عُقْبة» من عدَّة طُرق أخرجها الحاكمُ وأبو سعد النَّيسابوري والبيهقي في «الدلائل» وغيرهم سنة خمس ولفظه: عن موسى بن عُقْبة عن ابن شهابٍ، ثمَّ قاتلَ رسولُ الله صلعم بني المُصْطَلِق وبني لِحْيَان في شعبان سنة خمسٍ.
          ويؤيِّده ما أخرجه البخاريُّ في الجهاد [خ¦2541] (2) عن ابنِ عمر ☻ : أنَّه غزا مع النَّبي صلعم بني المُصْطَلِق. وابن عمر ☻ في شعبان سنة أربع لم يؤذن له في القتال؛ لأنَّه إنَّما أُذِن له في الخندق، كما تقدَّم [خ¦4097] وهي بعد شعبان سواء قلنا: إنَّها كانت في سنة خمس أو في سنة أربع. وقال الحاكمُ في «الإكليل»: قولُ عروة وغيره إنَّها كانت في سنة خمسٍ أشبَه من قول ابن إسحاق. قال الحافظُ العسقلاني: ويؤيِّده ما ثبت في حديث الإفك أنَّ سعد بن معاذ ☺ تنازعَ هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفكِ كما سيأتي [خ¦4141].
          فلو كانت المُرَيسيع في شعبان سنة ستٍّ مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في الصَّحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطًا؛ لأنَّ سعد بن معاذ ☺ مات أيَّام قُريظة، وكانت سنة خمس / على الصَّحيح، كما تقدَّم [خ¦4122].
          وإن كانت كما قيل سنة أربع فهو أشد، فيظهرُ أنَّ المُريسيع كانت سنة خمس في شعبان لتكون قد وقعتْ قبل الخندق؛ لأنَّ الخندق كانت في شوال من سنة خمس أيضًا فتكون بعدها، فيكون سعد بن معاذ موجودًا في المُريسيع ورُمِيَ بعد ذلك بسهمٍ في الخندق، ومات من جراحتهِ في قُرَيظة.
          ويؤيِّد أيضًا أنَّ حديث الإفك كان سنة خمسٍ أنَّ الحديث فيه التَّصريح بأنَّ القصة وقعتْ بعد نزولِ الحجاب، والحجابُ كان في ذي القَعدة سنة أربع عند جماعة، فيكون المُريسيع بعد ذلك فيترجح أنَّها سنة خمس.
          وأمَّا قول الواقدي أنَّ الحجاب كان في ذي القَعدة سنة خمسٍ فمردودٌ، وقد جزمَ خليفة وأبو عُبيد وغيرُ واحدٍ بأنَّه كان سنة ثلاث، فحصلنا في الحجابِ على ثلاثة أقوالٍ أشهرها سنة أربع، والله تعالى أعلم.
          ثمَّ إنَّه قال الواقدي: كانت؛ أي: غزوة المريسيع لليلتين من شعبان سنة خمس في سبعمائة من أصحاب النَّبي صلعم ، وسبى النَّبي صلعم جويرية بنت الحارث فأعتقها وتزوجها، وكانت الأسرى أكثر من سبعمائة.
          (وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ) أي: الجَزَرِي _بفتح الجيم والزاي و [كسر] الراء_ أبو إسحاق الأموي مَولاهم الحرَّاني، وقد روى تعليقَه الجَوْزقي والبيهقيّ في «الدلائل» من طريق حَمّاد بن زيد عن النُّعمان بن راشد ومَعْمر عن الزُّهري عن عروة عن عائشة ♦، فذكر قصَّة الإفك في غزوة المُريسيع.
          (عَنِ الزُّهْرِيِّ) أنَّه قال: (كَانَ حَدِيثُ الإِفْكِ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ) وبهذا قال ابن إسحاق وغيرُ واحدٍ من أهل المغازي: إنَّ قصَّة الإفك كانت في رُجوعهم من غزوة المُرَيسيع، وذكر ابنُ إسحاق عن مشايخه أنَّه صلعم بلغَه أنَّ بني المُصْطَلق يجمعون له، وقائدُهم الحارث بن أبي ضِرَار، فخرجَ إليهم حتى لقيَهُم على ماءٍ من مياههم يُقال له: المُريسيع قريب من السَّاحل، فتزاحفَ النَّاس واقتتلوا، فهزمَهُم الله تعالى، وقُتِل منهم عشرة، ونَفَّل رسولُ الله صلعم / نساءهُم وأبناءهُم وأموالهم.
          كذا ذكرَ ابنُ إسحاق بأسانيدَ مرسلة، والذي في الصَّحيح، كما تقدَّم في كتاب العتق [خ¦2541] من حديث ابنِ عمر ☻ يدلُّ على أنَّه أغارَ عليهم على حين غفلةٍ منهم، فأوقعَ بهم ولفظه: أنَّ النَّبي صلعم أغارَ على بني المُصْطلق وهم غارّون، وأَنْعامهم تُسقى على الماء، فَقَتَل مقاتلتهم وسبى ذراريهم. الحديث، فيُحتملُ أن يكونوا حين الإيقاع بهم ثبتوا قليلًا، فلمَّا كَثُرَ فيهم القتل انهزموا، والله تعالى أعلم.


[1] كذا في الفتح، وفي المعجم الأوسط للطبراني (سنان).
[2] في كتاب العتق يحرر