نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}

          ░4▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} إلى قوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:9-13]) كذا في رواية الأكثرين، وسيقت الآيات بتمامها في رواية كريمة هكذا: <{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}> بدل من {إِذْ يَعِدُكُمُ}، أو متعلق بقوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال:7-8]، أو على إضمار اذكر، / واستغاثتهم أنهم لما علموا أنَّه لا بدَّ من القتال أخذوا يدعون الله تعالى يقولون: أيْ ربِّ انصرنا على عدوِّك أغثنا يا غياث المستغيثين، وسيجيء بيان الاستغاثة في حديث ابن عباس ☻ [خ¦3953].
          <{فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ}> أي: بأني ممدُّكم فحذف حرف الجرِّ وسلَّط عليه استجاب فنصب محلَّه. وعن أبي عَمرو أنَّه قرأ: ▬إنِّي مُمِدُّكُمْ↨ بالكسر على إرادة القول، أو على إجراء استجاب مجرى قال؛ لأنَّ الاستجابة من القول؛ أي: من جنسه، فإنَّه قول مخصوص؛ لأنَّ المستجيب يقول: قبلت حاجتك فمعنى القول مستفادٌ من لفظ «استجاب»، وفي الوجه الأوَّل من نفس اللَّفظ المقدَّر.
          <{بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}> أي: يردف بعضهم بعضاً من أردفته إذا جئت بعده، أو المعنى متَّبعين المؤمنين؛ أي: جائين خلف المؤمنين، أو مُتبعين بعضهم بعض المؤمنين، أو أنفسهم المؤمنين من أردفته إيَّاه فردفه.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : متتابعين؛ يعني: وراء كلِّ ملَكٍ ملَك.
          وقال ابنُ جرير: حدَّثني المثنى:حدثنا إسحاق:حدثنا يعقوب بن محمد الزُّهري: حدَّثني عبد العزيز بن عمران، عن الرَّافعي، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جُبير، عن عليٍّ ☺ قال: نزلَ جبريل ◙ في ألف من الملائكة عن ميمنة النَّبي صلعم وفيها أبو بكر ☺، ونزل ميكائيلُ في ألف من الملائكة عن ميسرة النَّبي صلعم وأنا في الميسرة.
          وهذا لو صحَّ إسنادُه يقتضِي أنَّ الألف مردفةٌ بمثلها، ولهذا قرأ نافع ويعقوب: {مُرْدَفِينَ} [الأنفال:9] بفتح الدال؛ أي: متَّبعين، أو مُتْبعين بمعنى: أنهم كانوا مقدِّمة الجيش. وقرئ: ▬بآلاف↨ ليوافق ما في سورة آل عمران، واختلف في مقاتلتهم وقد روي أخبار تدلُّ عليها.
          ومن جملتها: ما روي: أنَّ أبا جهلٍ قال لابن مسعود ☺: من أين كان ذلك الصَّوت الذي كنا نسمعُ ولا نرى شخصاً؟ قال: من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبوا لا أنتم.
          ومنها: ما رُوِي: أنَّ رجلاً من المسلمين بينا هو يشتدُّ في إثر رجل من المشركين، إذ سمعَ صوت ضربة بالسَّوط فوقه، فنظر إلى المشرك وقد خرَّ مستلقياً، وشُقَّ وجهه، فحدَّث الأنصاري رسول الله صلعم فقال: «صدقت ذاك من مدد السماء». وعن أبي داود المازني: تبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر، فوقع رأسه بين يديَّ قبل أن يصلَ إليه سيفي، كذا في «الكشاف»، والله تعالى أعلم.
          <{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ}> أي: بعْثَ الملائكة وإعلامه إيَّاكم بهم <{إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ}> أي: إلَّا بشارة لكم بالنَّصر <{وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ}> فيزول ما بكُم من الوَجَل لقلَّتكُم وذلَّتكم، / وإلَّا فالله قادرٌ على نصركُم على أعدائكم بدون ذلك، ولهذا قال تعالى:< {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ}> كلمة {إِذْ} بدل ثان من {إِذْ يَعِدُكُمُ} لإظهار نعمة ثالثة، أو متعلِّق بالنصر، أو بما في «عند الله» من معنى الفعل، أو «بما جعله الله»، أو بإضمار اذكر. ومعنى {يُغَشِّيكُمُ} يغطيكم يقال: غشاه تغشيةً: إذا غطَّاه. وقرأ نافع بالتخفيف من أغشيته الشيء: إذا غشيته إيَّاه والفاعل على القراءتين هو الله تعالى، والنُّعاس منصوب على المفعولية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ} برفع النعاس <{أَمَنَةً مِنْهُ}> أي: أمناً حاصلاً لكم من الله، وهو مفعول له باعتبار المعنى، فإن قوله: {يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} يتضمن معنى: تنعسون، ويغشاكم بمعناه. والأمنة: فعل لفاعل تنعسون فوجد شرط نصبه. ويجوز أن يرادَ بها الإيمان بمعنى: جعل الشَّيء إذا أمن من إصابة مكروه، فيكون فعل المغشِي. وأن تجعل على القراءة الأخيرة فعل النُّعاس على المجاز؛ لأنَّها لأصحاب النُّعاس، أو لأنه كان من حقِّه أن لا يغشاهم؛ لشدَّة الخوف فلما غشِيَهم فكأنه حصلت له أمنة من الله لولاها لم يَغْشَهم.
          قال المفسرون: ذكَّرهم الله تعالى بما أنعم الله به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أماناً من خوفهم الذي حصل لهم من قلَّة عددهم، وكثرة عدد أعدائهم. وقال أبو طلحة: كنتُ ممَّن أصابه النُّعاس ولقد سقط السَّيف من يدي مراراً، ولقد نظرتُ إليهم يمتدون وهم تحت الجُحُفِ.
          وقال سفيان الثَّوري: عن أبي عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله بن مسعود ☺ أنَّه قال: النُّعاس في القتال أمنةٌ من الله، وفي الصَّلاة من الشَّيطان. وقال قتادة: النُّعاس في الرأس، والنَّوم في القلب. وقال سُهيلُ بن عبد الله: هو يحل في الرأس مع حياة القلب، والنَّوم يحل في القلب بعد نزوله من الرأس.
          <{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}> أي: من الحدث والجنابة <{وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}> يعني: الجنابة؛ / لأنَّه من تخييله، أو وسوسته وتخويفه إيَّاهم من العطش <{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}> بالوثوق على لطف الله بهم <{وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال:7-11]> أي: بالمطر حتى لا تسوخَ في الرمل، أو بالرَّبط على القلوب حتى تثبتَ في المعركة. وفي «الأساس»: ربطتُ الدَّابة: شددتُها برباط، والمربط الحبل.
          ومن «المجاز»: ربطَ الله على قلبه صبَّره، ولمَّا كان الخوف والقلقُ يزعجُ القلوب عن مقارِّها قال الله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10]. وقيل في مقابلته: ربطَ على قلبه: إذا تمكَّن وثبت وهو تمثيل، شبَّه تثبيت القلوب بالصَّبر بشدِّ الدَّواب بالرِّباط.
          رُوِي عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه نزل المسلمون يوم بدر في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدَّواب على غير ماء، وسبقَهم المشركون إلى ماء بدرٍ وغلبوهم عليه ونام المسلمون، وأصبحَ المسلمون بعضهم مُحدِثين، وبعضهم مجنبين، وأصابهم الظَّمأ، فوسوسَ إليهم الشَّيطان وقال: تزعمون أنَّ فيكم نبيَّ الله وأنكم أولياء الله، وقد غلبكُم المشركون على الماء، وأنتم تصلُّون مُحْدِثين ومُجْنِبين، فكيف ترجون أن تظهروا عليهم؟ فأشفقوا، فأرسل الله عليهم مطراً من السَّماء سال منه الوادي، فاتخذوا الحياض على عُدْوته، فشربوا منه واغتسلوا وتوضَّؤوا، وسقوا الركاب وملؤوا الأسقية، وطفأت الغبار، وتلبَّد الرمل الذي بينهم وبين العدوِّ حتى ثبتتْ عليه الأقدام، وزالت وسوسة الشَّيطان، فذلك قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنفال:11] الآية.
          <{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ}> بدل ثالث من {إِذْ يَعِدُكُمُ} أو متعلِّق بـ {يُثَبِّتَ} <{إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ}> في إعانتهم وتثبيتهم، وهو مفعول {يُوحِي}. وقرئ: ▬إِنِّي↨ بالكسر على إرادة القول، أو إجراء الوحي مجراه <{فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا}> بالبشارة، أو بتكثيرِ سوادهم، أو بمحاربةِ أعدائهم، فيكون قوله: <{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}[الأنفال:11]> كالتَّفسير لقوله: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا} والرُّعب: الخوف والمذلَّة والصَّغار، / وفيه دليل على أنَّهم قاتلوا، ومن منع ذلك جعل الخطاب فيه مع المؤمنين إمَّا على تغيير الخطاب، أو على أنَّ قوله: {سَأُلْقِي} إلى قوله: {كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] تلقينُ للملائكة ما يثبِّتون المؤمنين به كأنَّه قال لهم: قولوا هذا.
          <{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}> أعاليها التي هي المذابح؛ لأنَّها مفاصل، وكان إيقاع الضَّرب فيها جزاً وتطييراً للرُّؤوس، أو الرؤوس؛ لأنَّها فوق الأعناق <{وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}> أصابع؛ أي: جزُّوا رقابهم واقطعوا أطرافَهم، وقيل: كل مفصل، <{ذَلِكَ}> إشارة إلى الضَّرب، أو الأمر به، والخطاب للرَّسول، أو لكلِّ أحدٍ من المخاطبين <{بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}> بسبب مشاقتهم ومخالفتهم لهما، واشتقاقه من الشقِّ؛ لأن كلاًّ من المتعاندين في شقٍّ خلاف شق الآخر كالمعاداة من العدوة، والمخاصمة من الخصْم، وهو الجانب.
          <{وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:13]>: تقرير للتعليل، أو وعيد بما أعدَّ لهم في الآخرة بعد ما حاقَ بهم في الدُّنيا. أو المعنى _والله تعالى أعلم_: هو الطَّالب الغالب لمن خالفَه وناوأه، ولا يفوته شيءٌ، ولا يقوم لغضبهِ شيء.