الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

{قل أعوذ برب الناس}

           ░░░114▒▒▒ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}
          ♫
          في «نسخ الشُّروح الثَّلاثة» بزيادة لفظ <سورة> مِنْ غير بسملةٍ، قال العَينيُّ: وفي بعض النُّسخ: <سورة النَّاس>، وهي مدنيَّةٌ. انتهى.
          وقال القَسْطَلَّانيُّ: هي مكِّيَّةٌ أو مدنيَّةٌ، فإن قلت: إنَّه تعالى ربُّ جميع العالمين فلم خصَّ النَّاس؟ أجيب: لشرفهم أو لأنَّ المأمور هو النَّاس. انتهى.
          قوله: (ويذكر عن ابن عبَّاسٍ: الوسواس إذا ولد...) إلى آخره، وفي «نسخة الحافظ» <وقال ابن عبَّاسٍ>، قال الحافظ: كذا لأبي ذَرٍّ، ولغيره: <ويذكر عن ابن عبَّاسٍ>، وكأنَّه أولى لأنَّ إسناده إلى ابن عبَّاسٍ ضعيفٌ أخرجه الطَّبَريُّ والحاكم، وفي إسناده حكيم بن جُبيرٍ وهو ضعيفٌ، ولفظه: ((ما مِنْ مولودٍ إلَّا على قلبه الوسواس، فإذا عمل فذكر الله خنس، فإذا غفل وسوس)) ورُوِّيناه في «الذِّكر» لجعفر بن أحمد بن فارسٍ مِنْ وجهٍ آخر عن ابن عبَّاسٍ، وفي إسناده محمَّد بن حُميدٍ الرَّازيُّ وفيه مقالٌ، ولفظه ((يحطُّ الشَّيطان فاه على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله تعالى خنس)) ولسعيد بن منصورٍ مِنْ طريق / عروة بن رُوَيمٍ قال: سأل عيسى وعلى(1) نبيِّنا و╕ ربَّه أن يريه موضع الشَّيطان مِنِ ابن آدم، فأراه فإذا رأسُه مثل رأس الحيَّة واضعٌ رأسه على ثمرة القلب، فإذا ذكر العبدُ ربَّه خنس، وإذا ترك منَّاه وحدَّثه.
          قال(2) ابن التِّين: ينظر في قوله: (خنسه الشَّيطان) فإنَّ المعروف في اللُّغة خَنَسَ إذا رجع وانقبض، وقال عياضٌ: كذا في جميع الرِّوايات، وهو تصحيفٌ وتغييرٌ، ولعلَّه كان فيه: نَخَسَه، أي: بنونٍ ثُمَّ خاءٍ معجمةٍ ثُمَّ سينٍ مهملةٍ مفتوحاتٍ... إلى آخر ما بسط الحافظ في تحقيقه.
          والمختصر ما قاله العينيُّ قوله: (خنس الشَّيطان) قال الصَّاغانيُّ: الأَولى نخسه الشَّيطان، مكان (خنسه الشَّيطان)، فإن سلمت اللَّفظة مِنَ الانقلاب والتَّصحيف فالمعنى_والله أعلم _ أخَّره وأزاله عن مكانه لشدَّة نخسه وطعنه في خاصرته.
          ثُمَّ قال تحت حديث الباب: هذا طريقٌ آخر في حديث أُبيِّ بن كعبٍ، وفيه قوله: ((يقول كذا وكذا)) عيني(3) أنَّهما ليستا مِنَ القرآن.
          قوله: (قيل لي) أي: أنَّهما مِنَ القرآن، وهذا كان ممَّا اختَلف فيه الصَّحابة ثُمَّ ارتفع الخلاف ووقع الإجماعُ عليه، فلو أنكر اليوم أحدٌ قرآنيَّتهما كفر، وقال بعضهم: ما كانت المسألة في قرآنيَّتهما بل في صفةٍ مِنْ صفاتهما، وخاصَّةٍ مِنْ خاصِّيَّتهما(4)، ولا شكَّ أنَّ هذه الرِّواية تحتملها، فالحملُ عليها أَولى، والله أعلم.
          فإن قلت: قد أخرج أحمد وابن حِبَّان مِنْ رواية حمَّاد بن سلمة عن عاصمٍ بلفظ أنَّ ابن مسعودٍ كان لا يكتب المعوِّذتين في مصحفه، وأخرج عبد الله بن أحمد في «زيادات المسند» والطَّبَرانيُّ وابن مَرْدَويه مِنْ طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد الرَّحمن بن يزيد النَّخعيِّ قال: كان عبد الله بن مسعودٍ يحكُّ المعوِّذتين مِنْ مصاحفه ويقول: إنَّهما ليستا مِنَ القرآن أو مِنْ كتاب الله تعالى.
          قلت: قال البزَّار: لم يتابِع ابنَ مسعودٍ على ذلك أحدٌ مِنَ الصَّحابة، وقد صحَّ عن النَّبِيِّ صلعم أنَّه قرأهما في الصَّلاة، وهو في «صحيح مسلمٍ» عن عقبة بن عامرٍ، وزاد فيه ابنُ حبَّان مِنْ وجهٍ آخر عن عقبة بن عامرٍ: ((فإن استطعت ألَّا تفوتك قراءتهما في صلاةٍ فافعل)) وأخرج أحمد مِنْ طريق أبي العلاء ابن الشِّخِّير عن رَجلٍ مِنَ الصَّحابة أنَّ النَّبيَّ صلعم أقرأه المعوِّذتين، وقال له: ((إذا أنت صلَّيت فأقرأ بهما)) وإسناده صحيحٌ، وروى سعيد بن منصورٍ مِنْ حديث معاذ بن جبلٍ رضي الله تعالى عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم صلَّى الصُّبح فقرأ فيهما بالمعوِّذتين)). انتهى.
          وقال القَسْطَلَّانيُّ: وعنه_أي عقبة بن عامرٍ _ أيضًا ((أمرني رسول الله صلعم أن أقرأ بالمعوِّذات في دبر كلِّ صلاةٍ)) رواه أبو دواد والتِّرْمِذيُّ، وعند النَّسَائيِّ عنه أيضًا أنَّ النَّبيَّ صلعم قرأ بهما في صلاة الصُّبح، وقد رُوي ذلك مِنْ طرقٍ قد تفيد التَّواتر يطول إيرادها والله الموفِّق للصَّواب. انتهى.
          وبسط الكلام على هذه المسألة في «هامش اللَّامع» فارجع إليه لو شئت، وفيه عن «الإتقان» للسُّيوطيِّ: قال الحافظ ابن حَجَرٍ: قد صحَّ عن ابن مسعودٍ إنكارُ ذلك، ثُمَّ قال بعد ذكر الرِّوايات المرويَّة عن ابن مسعودٍ: إنَّ أسانيدها صحيحةٌ، فقول مَنْ قال: إنَّه كذبٌ على ابن مسعودٍ مردودٌ، والطَّعن في الرِّوايات الصَّحيحة بغير مستندٍ لا يُقبل، بل الرِّوايات صحيحةٌ والتَّأويل محتملٌ، وقد أوَّله القاضي وغيره على إنكار الكتابة كما سبق، وهو تأويلٌ حسنٌ إلَّا أنَّ الرِّواية الصَّريحة الَّتي جاء فيها ((ويقول: إنَّهما ليستا مِنْ كتاب الله)) تدفع ذلك، ويمكن حمل لفظ كتاب الله على المصحف فيتمُّ التَّأويل المذكور. انتهى.
          وقوله: كما سبق، إشارةٌ إلى ما تقدَّم في «هامش اللَّامع» أيضًا، وهو ما قال الحافظ، وقد تأوَّل القاضي أبو بكرٍ الباقلَّانيُّ في «كتاب الانتصار» وتبعه عياضٌ وغيره ما حكى(5) عن ابن مسعودٍ فقال: لم ينكر ابن مسعودٍ كونهما مِنَ القرآن / وأنكر إثباتهما في المصحف، فإنَّه كان يرى ألَّا يكتب في المصحف شيئًا إلَّا إن كان النَّبيُّ صلعم أذن في كتابته فيه، وكأنَّه لم يبلغه الإذنُ في ذلك. انتهى.
          قلت: بسط بحرُ العلوم الكلام على ذلك أشدَّ البسط، وقال بعد نقل كلام صاحب «الإتقان» والنَّوَويِّ وابن حزمٍ: فما قال الشَّيخ ابن حَجَرٍ في «شرح صحيح البخاريِّ» إنَّه قد صحَّ عن ابن مسعودٍ إنكار ذلك باطلٌ لا يلتفت إليه، والَّذي صحَّ عنه ما روى أحمد وابن حبَّان أنَّه كان لا يكتب المعوِّذتين في مصحفه، وإنَّما صحَّ خلوُّ مصحفه عنها... إلى آخر ما بسط في «هامش اللَّامع».
          وقال الحافظ ابن كثيرٍ في «تفسيره»: وهذا مشهورٌ عند كثيرٍ مِنَ القرَّاء والفقهاء أنَّ ابن مسعودٍ كان لا يكتب المعوِّذتين في مصحفه، فلعلَّه لم يسمعها مِنَ النَّبِيِّ صلعم ولم يتواتر عنده، ثُمَّ قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فإنَّ الصَّحابة رضي الله تعالى عنهم أثبتوهما في المصاحف ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك، ولله الحمد والمنَّة.
          ثُمَّ ذكر عدَّة رواياتٍ صريحةٍ دالَّةٍ على كونهما مِنَ القرآن، فذكر حديث عقبة بن عامرٍ المذكور قريبًا مِنْ عدَّة طرقٍ، وذكر حديثين آخرين: أحدهما: عن عبد الله الأسلميِّ هو ابن أنيسٍ، وحديثًا آخر عن جابر بن عبد الله، فارجع إليه لو شئت.
          قلت: وما يخطر ببالي مِنْ قديم الزَّمان أنَّ السُّؤال في قوله: (سألت أُبيَّ بن كعبٍ عن المعوِّذتين) ليس عن قرآنيَّتهما، بل مقصود السَّائل السُّؤال عن قراءة لفظ {قُلْ} كما هو في أوَّل هاتين السُّورتين، والمعنى أقرأهما بلفظ {قُلْ} أو بدونه؟ فقال: سألت رسول الله صلعم فقال: (قيل لي) أي: أقرأنيهما جبريل بلفظ: (قل فقلت) قرأت بلفظ {قُلْ}، والله سبحانه وتعالى أعلم.
          وهذا آخر ما يتعلَّق «بكتاب التَّفْسير» أمَّا براعة الاختتام فعند الحافظ كما تقدَّم في مقدَّمة «اللَّامع» مِنْ قول الحافظ: وفي آخر التَّفْسير تفسير المعوِّذتين.
          وأمَّا عند هذا العبد الضَّعيف فقد تقدَّم أيضًا بلفظ: وفي آخر التَّفْسير شرور الشَّيطان والنَّفس، فإنَّها كلُّها مِنْ مهلكات الآخرة.


[1] في (المطبوع): ((على)).
[2] في (المطبوع): ((وقال)).
[3] في (المطبوع): ((يعني)).
[4] في (المطبوع): ((خاصَّتهما)).
[5] في (المطبوع): ((حُكي)).