الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

{عبس}

           ░░░80▒▒▒ <{عَبَسَ}>
          هكذا في «النُّسخ الهنديَّة» بغير لفظ (سورة) وبسملة، وفي «نسخ الشُّروح الثَّلاثة» بزيادتهما، قال الحافظ: سقطت البسملة لغير أبي ذَرٍّ.
          قال العينيُّ: وتسمَّى سورة السَّفرة وهي مكِّيَّةٌ، وذكر السَّخاويُّ أنَّها نزلت قبل سورة القدر وبعد سورة النَّجم، وذكر الحاكم مصحِّحًا عن عائشة: ((أنَّها نزلت في ابن أمِّ مكتومٍ الأعمى أتى رسول الله صلعم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني_وعند رسول الله[صلعم] رجالٌ مِنْ عظماء المشركين _ فجعل رسول الله صلعم يُعرِض عنه ويُقبِل على الآخرين)) الحديث. انتهى.
          قوله: (كلح وأعرض) وفي «نسخة العينيِّ والقَسْطَلَّانيِّ» بعد ذكر البسملة: <{عَبَسَ} [عبس:1] كلح وأعرض>، أعني: بإعادة لفظ {عَبَسَ}، وفي «نسخة الحافظ»: <{عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1]> ثُمَّ ذكر التَّفْسير المذكور، قال الحافظ: أمَّا تفسير: {عَبَسَ} فهو لأبي عُبيدة، وأمَّا تفسير {وَتَوَلَّى} فهو في حديث عائشة الَّذي سأذكره بعدُ، ولم يختلف السَّلف في أنَّ فاعل {عَبَسَ} هو النَّبيُّ صلعم، وأغرب الدَّاوديُّ فقال: هو الكافر، وأخرج التِّرْمِذيُّ والحاكم مِنْ طريق يحيى بن سعيدٍ الأمويِّ، وابنُ حِبَّان مِنْ طريق عبد الرَّحيم بن سليمان، كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ((نزلت في ابنِّ أمِّ مكتومٍ الأعمى فقال: يا رسول الله أرشدْني_وعند النَّبِيِّ صلعم رَجلٌ مِنْ عظماء المشركين _ فجعل النَّبيُّ صلعم يُعرِض عنه ويقبل على الآخر، فيقول له: أترى بما أقول بأسًا؟ فيقول: لا، فنزلت: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1])) قال التِّرْمِذيُّ: حسنٌ غريبٌ، وقد أرسله بعضُهم عن عروة لم يذكر عائشة، وذكر عبد الرَّزَّاق عن مَعْمرٍ عن قَتادة أنَّ الَّذي كان يكلِّمه أُبيُّ بن خلفٍ، وروى سعيدُ بن منصورٍ مِنْ طريق أبي مالكٍ أنَّه أميَّة بن خلفٍ، وروى ابن مَرْدويه مِنْ حديث عائشة أنَّه كان يخاطب عُتبة وشيبة ابني ربيعة، ومِنْ طريق العوفيِّ عن ابن عبَّاسٍ قال: عتبة وأبو جهلٍ وعيَّاشٌ، ومِنْ وجهٍ آخر عن عائشة: كان في مجلسٍ فيه ناسٌ مِنْ وجوه المشركين منهم أبو جهلٍ وعتبة، فهذا يجمع الأقوال. انتهى.
          قوله: ({مُطَهَّرَةٍ} لا يمسُّها إلَّا المطهَّرون وهم الملائكة...) إلى آخره، قال العينيُّ: أشار به إلى قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:13-14] وفسَّر المطهَّرة بقوله: (لَا يمسُّها إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وهم الملائكة) يعني: لمَّا كانت الصُّحف [قد] تتَّصف بالتَّطهير وصف أيضًا حاملها، أي: الملائكة، فقيل: لا يمسُّها إلَّا المطهَّرون، وهذا كما في: {فالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات:5] فإنَّ التَّدبير لمحمول خيول الغُزاة، فوصف الحامل_يعني الخيول _ به فقيل: {فَالْمُدَبِّرَاتِ} [النازعات:5].
          وقال الكَرْمانيُّ: وفي بعض النُّسخ: <لا يقع> بزيادة <لا>، وفي توجيهه تكلُّفٌ، قلت: وجهه أنَّ الصُّحف لا يقع عليها التَّطهير الَّذي هو خلاف التَّنجيس حقيقةً وإنَّما / المراد أنَّها مطهَّرةٌ عن أن ينالها أيدي الكفَّار، وقيل: مطهَّرةٌ عمَّا ليس بكلام الله تعالى فهو الوحي الخالص والحقُّ المحض. انتهى.
          قلت: اختلفت النُّسخ ففي «النُّسخة الهنديَّة» بلفظ: <لا يقع عليها التَّطهير> بزيادة حرف النَّفي، وفي «نسخ الشُّروح الثَّلاثة: الفتح والعينيِّ والقَسْطَلَّانِّي»: <يقع عليها التَّطهير> بغير لفظة (لا)، وفي «هامش الهنديَّة» عن «الخير الجاري» بعد قول الكَرمانيِّ: وفي توجيهه تكلُّفٌ، وتوجيهها أنَّها ليست ممَّا يَحتاج إلى التَّطهير بل هي طاهرةٌ بذاتها مطهِّرةٌ لغيرها مِنَ الأنجاس الباطنة. انتهى.
          وكتب الشَّيخ في «اللَّامع»: قوله: (لا يقع عليها التَّطهير) يعني أنَّ التَّطهير الواقع بعد قابليَّة التَّنجُّس(1) غير واقعٍ على الصُّحف لتطهُّرها ذاتًا فلم يكن إطلاق المطهَّر عليها إلَّا مجازًا، والحاصل أنَّ المطهَّر إمَّا أن يكون صفة الصُّحف حقيقةً والملائكةِ مجازًا أو بالعكس، وعلى الأوَّل فالصَّحيح نسخة <يقع> بالإثبات، وعلى الثَّاني: فلكلٍّ منهما وجهٌ نفيًا كان أو إثباتًا، وأيضًا فالتَّطهير على التَّوجيه الأوَّل يعني: إذا كان صفةً للصُّحف ما لم يتقدَّمه صلاح التَّنجُّس وقابليَّتُه، وعلى الثَّاني: ما كان قبله ذلك، وإذا علمت هذا فنقول: معنى قوله: {مُطَهَّرَةٍ} [عبس:14] إلى آخره، أنَّ الصُّحف مطهَّرةٌ بذواتها كما ذكر هاهنا في السُّورة، وإطلاق المطهَّر في قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] مجازٌ مِنْ قَبيل وصف الحامل بصفة محموله، كما في قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات:5] حيث وقع المدبِّر صفةً للخيل وكانت لراكبيه، وذلك لأنَّ الملائكة ليست متَّصفةً بهذا النَّوع مِنَ الطُّهر، وأمَّا على الثَّاني فمعنى قوله: {مُطَهَّرَةٍ} إلى آخره، أنَّ إطلاق المطهَّرة على الصُّحف مجازٌ، وأمَّا الحقيقة فما هو في قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] فإنَّ المطهَّر صفةٌ للملَك، لأنَّه الَّذي طُهِّر عن المأثم وسائر الأنجاس حدثًا كان أو خبثًا، وأمَّا الصُّحف فلا يقع عليها التَّطهير لأنَّها لا تقبل النَّجس، ولا تصلح له حتَّى يصحَّ ورود التَّطهير عليها، فليس ذلك إلَّا وصفًا للشَّيء بما يلابسه، كما وُصفت الخيول بصفة الرَّاكبين وإن كان الوصف في الخيول للرَّكْب وهاهنا بالعكس، وعلى هذا فقوله: (فجعل التَّطهير لِمَنْ حملها أيضًا) لا يخلو إرجاعه إلى هذا التَّقرير عن تكلُّفٍ، لأنَّ طاهره(2) لا يفيد هذا المدَّعي، وغاية توجيهه أن يقال: (فجعل التَّطهير) صفةً للصُّحف (لأجل مَنْ حملها) أي: بواسطةٍ(3) ولتوصله (أيضًا) أي: كما قال صفة للصُّحف أصالةً. انتهى.
          قوله: (وهو عليه شديدٌ فله أجران) قال الحافظ: قال ابن التِّين: اختُلف هل له ضعف أجر الَّذي يقرأ القرآن حافظًا أو يضاعف له أجرُه، وأجر الأوَّل أعظم؟ قال: وهذا أظهر، ولِمَنْ رجَّح الأوَّلَ أن يقول: الأجر على قدر المشقَّة. انتهى.
          زاد القَسْطَلَّانيُّ: لكن لا نسلِّم أنَّ الحافظ الماهر خالٍ عن مشقَّةٍ، لأنَّه لا يصير كذلك إلَّا بعد عناءٍ كثيرٍ ومشقَّةٍ شديدةٍ غالبًا. انتهى.


[1] في (المطبوع): ((التنجيس)).
[2] في (المطبوع): ((ظاهره)).
[3] في (المطبوع): ((بواسطته)).