الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب: إذا اشترى متاعا أو دابة فوضعه عند البائع أو مات قبل أن

          ░57▒ (باب: إذا اشْتَرى مَتَاعًا أو دابَّة...) إلى آخره
          قالَ العلَّامةُ العَينيُّ: ولم يذكر الجواب لمكان الاختلاف، ولكنَّ تصدير التَّرجمة بأثر ابن عمر يدلُّ على أنَّ اختياره ما ذهب إليه ابن عمر، وهو أنَّ الهالك في الصُّورة المذكورة مِنْ مال المبتاع.
          وقال ابن بطَّالٍ: اختلف العلماء في هلاك المبيع قبل القبض، فذهب أبو حنيفة والشَّافعيُّ إلى أنَّ ضمانه [إن تلف] مِنَ البائع، [ وقال أحمد وإسحاق: مِنَ المشتري، وأمَّا [مالكٌ] ففرَّق بين الثِّياب والحيوان، فقال: ما كان مِنَ الثِّياب والطَّعام فهلك قبل القبض فضمانه مِنَ البائع]، وأمَّا الدَّوابُّ والحيوان والعقار فمصيبته مِنَ المشتري(1). انتهى.
          قلت: وما حكى ابن بطَّالٍ مِنْ مذهب الحنابلة هو الصَّحيح كما في كتب فروعهم مِنْ «نيل المآرب» وغيره، وما حكى القَسْطَلَّانِيُّ مِنْ موافقتهم لمذهب الحنفيَّة والشَّافعيَّة ليس بصحيح.
          ثمَّ أورد المصنِّف حديث عائشة في قصَّة الهجرة، قالَ العَينيُّ: مطابقته للتَّرجمة مِنْ حديث(2) إِنَّ لها جزأين:
          أمَّا دلالته على الجزء الأوَّل فظاهرة لأنَّه صلعم لمَّا أخذ النَّاقة من أبي بكر بقوله: (قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمن) الَّذِي هو كناية عن البيع، تركه عند أبي بكر، فهذا يطابق قوله: (فتركه عند البائع).
          وأمَّا دلالته على الجزء الثَّاني _وهو قوله (أو مات قبل أن يقبض)_ فبطريق الإعلام أنَّ حكم الموت قبل القبض حكمُ الوضع عند البائع قياسًا عليه. انتهى.
          قال الحافظ: قال ابن المنيِّر: مطابقة الحديث بالتَّرجمة مِنْ جهة أنَّ البخاريَّ أراد أن يحقِّق انتقال الضَّمان في الدَّابَّة ونحوها إلى المشتري بنفس العقد، فاستدلَّ لذلك بقوله صلعم: ((قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمن)) وقد عُلم أنَّه لم يقبضها، بل أبقاها عند أبي بكر، ومِنَ المعلوم أنَّه ما كان ليبقيَها في ضمان أبي بكر لِما يقتضيه مكارم أخلاقه حتَّى يكون الملك له والضَّمان على أبي بكر مِنْ غير قبضِ ثمن.
          قال الحافظ: ولقد تَعَسَّف في هذا، وليس في التَّرجمة ما يلجئ إلى ذلك، فإنَّ دلالة الحديث على قوله: (فوضعه عند البائع) ظاهرة جدًّا، وأمَّا دلالته على قوله: (أو مات قبل أن يقبض) فهو وارد على سبيل الاستفهام، ولم يجزم بالحكم في ذلك، بل هو على الاحتمال فلا حاجة لتحميله ما لم يتحمَّل، نعم ذِكره لأثر ابن عمر في صدر التَّرجمة مُشْعِر باختيار ما دلَّ عليه فلذلك احتيج إلى إبداء المناسبة، والله الموفق. انتهى.
          ثمَّ لا يذهب عليك أنَّ لفظ التَّرجمة في «النُّسخ الهنديَّة» بلفظ: <فوضعه عند البائع فباع أو مات...> إلى آخره، ولا يوجد لفظ (فباع) في «النُّسخ المصريَّة» ولا في «الشُّروح الخمسة»: الكَرْمَانِيِّ و«الفتح» والعينيِّ والقَسْطَلَّانيِّ و السِّنْديِّ، وكتب المحشِّي على «هامش الهنديَّة» قوله: <فباع أو مات> هكذا في النُّسخ الموجودة، وأمَّا المنقول عنه ففيه: (ضاع أو مات) مكان قوله: <فباع أو مات>، أمَّا في العَينيِّ فلا يوجد فيه كلمة <فباع> ولا (ضاع) أصلًا بل لفظه: <فوضعه عند البائع أو مات> وكذا في «الفتح». انتهى.
          قلت: وقد تعرَّض له في «تقرير مولانا محمَّد حسن المكِّيِّ» كما في «هامش اللَّامع» فارجع إليه لو شئت.
          وفي «الفيض»: وفي نسخة أخرى: <فضاع> بدل (فباع) وهو الظَّاهر لأنَّ ترجمة البيع قبل القبض مرَّت آنفًا، وإنَّما أراد في تلك التَّرجمة التَّنبيه على حكم ضياع المبيع قبل القبض، وحاصل التَّرجمة على ما فهمه الشَّارحون أنَّ المبيع إن هلك قبل القبض هل يهلك مِنْ مال البائع أو المشتري؟ فالجمهور إلى أنَّه لو هلك قبل قبض المشتري هلك مِنْ مال البائع، وبعده مِنْ مال المشتري.
          قوله: (أو مات) أي: فإن مات المشتري قبل القبض، فعلى ورثته أن يقبضوه، وإن مات البائع فعلى أوليائه التَّسليم.
          قلت: وعندي أنَّ المصنِّف لم يتعرَّض إلى تلك المسألة بل إلى مسألة أخرى، وهي أنَّ المشتري إذا اشترى المبيع، ثمَّ وضعه عند البائع، فهل يجوز له / أن يبيعه وهو عند البائع؟ والَّذي يظهر مِنْ تراجمه أنَّه يصحُّ لأنَّ النَّقل ليس بشرط عنده، كما مرَّ فصحَّ لفظ: <فباع> على ما في أكثر النُّسخ، أمَّا ما ذهب إليه أكثر الشَّارحين فلا يصحُّ إلَّا على نسخة <فضاع>.
          ثمَّ قوله: (أو مات) المراد منه: موت أحد المتعاقدين دون المبيع، لأنَّه لا يقال فيه: مات، بل هلك، فتبيَّن أنَّه لا تعلُّق لترجمته بما ذهب الشَّارحون. انتهى.
          والأوجَهُ عند هذا العبد الضَّعيف أنَّ ترجمة الإمام البخاريِّ تمَّت إلى قوله: (فوضعه عند البائع) والمقصود: جواز ترك المبيع عند البائع، وهذا المعنى واضح مِنْ حديث عائشة، وأمَّا قوله: (فباع أو مات...) إلى آخره فليس بجزء للتَّرجمة، بل فَرَّع على التَّرجمة مسألةً مستأنفة لمكان اختلاف العلماء في ذلك، وبيَّن مختاره في تلك المسألة بأثر ابن عمر، فلا حاجة إلى إثبات هذه المسألة مِنَ الحديثِ، وبسط الكلام على ذلك في «هامش اللَّامع».


[1] عمدة القاري:11/255 مختصرا
[2] في (المطبوع): ((حيث)).