الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة

          ░54▒ (باب: ما يُذْكَر في بيع الطَّعَام والحُكْرة)
          قال القَسْطَلَّانيُّ: أي: ما يذكر في بيع الطعام قبل قبضه، وما يذكر في الحُكْرة(1). انتهى.
          قال الحافظ: الحُكْرة _بضم المهملة وسكون الكاف_: حبس السِّلع عن البيع، وليس في حديث الباب للحُكْرة ذكر، وكأنَّ المصنِّف استنبط ذلك مِنَ الأمر بنقل الطعام إلى الرِّحال، ومنع الطعام بيع قبل استيفائه، فلو كان الاحتكار حرامًا لم يأمر بما يؤول إليه وكأنَّه لم يثبت عنده حديث مَعْمر بن عبد الله مرفوعًا: ((لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ)) أخرجه مسلم، لكنَّ مجرَّد إيواء الطَّعام إلى الرِّحال لا يستلزم الاحتكار الشَّرعيَّ لأنَّ الاحتكار الشَّرعيَّ إمساك الطَّعام عن البيع وانتظار الغلاء مع الاستغناء عنه وحاجة النَّاس إليه، ويحتمل أن يكون البخاريُّ أراد بالتَّرجمة بيانَ تعريف الحُكْرة الَّتِي نهى(2) عنها في غير هذا الحديث، وأنَّ المراد بها قَدْر زائد على ما يفسِّره أهل اللُّغة، فساق الأحاديث الَّتِي فيها تمكين النَّاس مِنْ شراء الطَّعام ونقله، ولو كان الاحتكار ممنوعًا لمُنعوا مِنْ نقله، أو ليبيِّنَ(3) لهم عند نقله الأمد الَّذِي ينتهون إليه، أو لأخذ على أيديهم مِنْ شراء الشَّيء الكثير الَّذِي هو مظنَّة الاحتكار، وكلُّ ذلك مُشْعِرٌ بأنَّ الاحتكار إنَّما يُمنع في حالة مخصوصة بشروط مخصوصة(4). انتهى مِنَ «الفتح».
          وفي «تراجم شيخ المشايخ»: إن قلت: ليس في أحاديث الباب ذكر الحُكْرة، قلت: أراد أنَّ بيع الطعام لا بأس به إلَّا مِنْ علَّة خارجيَّة كعدم القبض ونحوه كأنَّه يقول: ما يذكر في بيع الطَّعام وما يمنعه مِنَ الحُكْرة ونحوها. انتهى.
          قلت: واختلفوا فيما يكره فيه الاحتكار، قالَ النَّوويُّ: قال أصحابنا: الاحتكار المحرَّم هو الاحتكار في الأقوات خاصَّة، وهو أن يشتري الطَّعام في وقت الغلاء للتِّجارة، ولا يبيعه في الحال(5)، بل يدَّخره ليغلوَ ثمنه، فأمَّا إذا جاءه مِنْ قرية أو اشتراه في وقت الرُّخص وادَّخره، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته، فليس باحتكار ولا تحريم فيه، وأمَّا غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكلِّ حال، وهذا تفصيل مذهبنا.
          وقال ابن العربيِّ: قال مالك: الاحتكار في كلِّ شيء إذا أضرَّ بالنَّاس إلَّا الفواكه، وأمَّا عند الحنابلة فما في «المغني» قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن أي شيءٍ الاحتكارُ؟ قال: إذا كان مِنْ قُوت النَّاس فهو الَّذِي يُكره.
          وفي «الدُّرِّ المختار»: كره احتكار قوت البشر كتينٍ وعنب ولوز، والبهائم كتبنٍ وقتٍّ، في بلد يضرُّ بأهله، فإن لم يضرَّه لم يُكْرَه، قال ابن عابدين: قوله: قوت البشر قول أبي حنيفة ومحمَّد وعليه الفتوى، وعن أبي يوسف: كلُّ ما أضر بالعامَّة حَبْسُهُ / فهو احتكار، وعن محمَّد: الاحتكار في الثِّياب.
          وقوله: كتين وعنب، أي: ممَّا يقوم به بدنهم مِنَ الرِّزق ولو دخنًا، لا عسلًا وسمنًا.
          وقوله: في بلد يضرُّ بأهله بأن كان البلد صغيرًا، وقوله: لا يكون محتكرًا بحبس غلَّة أرضه لأنَّه خالصُ حقِّه لم يتعلَّق به حقُّ العامَّة، ألَا ترى أنَّ له ألَّا يزرع، فكذا له ألَّا يبيع. انتهى.
          وفي «البدائع»: والكلام في الاحتكار في موضعين.
          أحدهما: في تفسير الاحتكار وما يصير به الشَّخص محتكرًا.
          والثَّاني: في بيان حكمه.
          أمَّا الأوَّل: فهو أن يشتري طعامًا في مصرٍ ويمتنع عن بيعه، وذلك يضرُّ بالنَّاس، وكذلك لو اشتراه مِنْ مكان قريب يُحمل طعامُه إلى المصر وذلك المصر صغير وهذا يضرُّ به يكون محتكرًا، وإن كان مصرًا كبيرًا لا يضرُّ به لا يكون محتكرًا، ولو جلب إلى مصر طعامًا مِنْ مكان بعيد وحبسه لا يكون احتكارًا، وعن أبي يوسف أنَّه يكون احتكارًا، إلى أنْ قال: والاحتكار يجري في كلِّ ما يضرُّ بالعامَّة، عند أبي يوسف قوتًا كان أو لا، وعند محمَّد: لا يجري الاحتكار إلَّا في قوت النَّاس وعلف الدَّوابِّ مِنَ الحنطة والشَّعير والتِّبن والقَتِّ... إلى آخر ما بسط في «الدَّلائل».
          ثمَّ ذكر المصنِّف في الباب أربعة أحاديث، والرَّابع حديث عمر، ومطابقته للتَّرجمة لِما فيه مِنِ اشتراط قبض الشَّعير مِنَ الرِّبَوِيَّات في المجلس، فإنَّه داخل في قبض الطَّعام بغير شرط آخر، وقد استشعر ابن بطَّالٍ مباينته للتَّرجمة، فأدخله في ترجمة (باب: بيع ما ليس عندك) وهو مغاير للنُّسخ المرويَّة عن البخاريِّ. انتهى مِنَ «الفتح».
          وقالَ العلَّامةُ العَينيُّ: مطابقته للتَّرجمة مِنْ حيثُ إنَّ فيه اشتراط القبض للرِّبَوِيَّات، وفي التَّرجمة ما يشعر اشتراط القبض للطَّعام، وزعم ابن بطَّالٍ أنَّه لا مطابقة بين الحديث والتَّرجمة. انتهى.
          ولا إشكال عندي لما قال الحافظ والعينيُّ، وأمَّا مطابقة بقية الأحاديث فظاهرة.


[1] إرشاد الساري:4/55
[2] في (المطبوع): ((نُهي)).
[3] في (المطبوع): ((لبيَّن)).
[4] فتح الباري:4/348
[5] في (المطبوع): ((الحلال)).