الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب كسب الرجل وعمله بيده

          ░15▒ (باب: كسب الرَّجل وعمله بيده)
          قال الحافظ: قد اختلف العلماء في أفضل المكاسب، قال الماورديُّ: أصول المكاسب الزِّراعة والتِّجارة والصَّنعة، والأشبه بمذهب الشَّافعيِّ أنَّ أطيبها التِّجارة، قال: والأرجح عندي أنَّ أطيبها الزِّراعة لأنَّها أقرب إلى التَّوكُّل، وتعقَّبه النَّوويُّ بحديث المقدام الَّذِي في هذا الباب، وأنَّ الصَّواب أنَّ أطيب الكسب ما كان بعمل اليد، قال: فإنَّ كان زرَّاعًا فهو أطيب المكاسب لِما يشتمل عليه مِنْ كونه عمل اليد، ولِما فيه مِنَ التَّوكُّل، ولِما فيه مِنَ النَّفع العامِّ للآدميِّ وللدَّوابِّ، ولأنَّه لا بدَّ فيه في العادة أن يُؤكل منه بغير عِوض.
          قال الحافظ: وفوق ذلك مِنْ عمل اليد ما يُكتسَب مِنْ أموال الكفَّار بالجهاد، وهو مكسب النَّبيِّ صلعم وأصحابه وهو أشرف المكاسب لِما فيه مِنْ إعلاء كلمة الله وخذلان كلمة أعدائه والنَّفع الأخرويِّ، قال: ومَنْ لم يعمل بيده فالزِّراعة في حقِّه أفضلُ لِما ذكرنا.
          قال الحافظ: والحقُّ أنَّ ذلك مختلِف المراتب، وقد يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص(1). انتهى مِنَ «الفتح».
          وفي «الأنوار» في فقه الشَّافعيَّة: وأطيبها التِّجارة عند الشَّافعي لأنَّ الصَّحابة رضوان الله عليهم كانوا يكتسبون بها. انتهى.
          قالَ العَينيُّ في (باب: فضل الزَّرع والغرس) مِنْ كتاب المزارعة: واستَدلَّ بحديث الباب بعضُهم على أنَّ الزراعة أفضل المكاسب / واختُلف فيه، فقالَ النَّوويُّ: أفضلها الزِّراعة، وقيل: الكسب باليد، وهي الصَّنعة، وقيل: التِّجارة، وأكثر الأحاديث تدلُّ على أفضليَّة الكسب باليد، وروى الحاكم في «المستدرك» مِنْ حديث أبي بُرْدة، قال: سئل رسول الله صلعم أيُّ الكسب أطيب؟ قال: ((أطْيَبُ الكَسْبِ(2) عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ)) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد... إلى آخر ما قال.
          قلت: وظاهر التَّرجمة الإشارة إلى ترجيح الحرفة، وبه صرَّح العينيُّ والقَسْطَلَّانِي.
          والأَوجَهُ عندي أنَّ غرض المصنِّف الإشارة إلى المكاسب كلِّها، فالأنواع الثَّلاثة المذكورة ثابتة في روايات الباب، فالتِّجارة في الحديث الأوَّل أنَّها(3) كانت حرفة الصِّدِّيق ☺ ، وأمَّا الزِّراعة فيُستفاد مِنْ ثاني أحاديث الباب بلفظ: ((كانوا عمَّال أنفسهم)) وكانت حرفة الأنصار الزِّراعة، وأمَّا الصَّنعة فيُستفاد مِنَ الحديثِ الثَّالث مِنْ عمل داود ╕، والنَّوع الرَّابع الإجارة، وهو ثابت مِنْ حديث أبي هريرة: ((لأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ))... الحديث، وأمَّا عدُّهم الجهاد مِنَ المكاسب فليس بواضح عندي، بل الظَّاهر أنَّ الجهاد ليس بكسب، نعم فيه حصول مال لكن العمل فيه ليس لأجل تحصيله، وإلَّا فللحصول أسباب أُخر، كالتَّصدُّق، والهبة، والميراث، اللَّهمَّ إلَّا أن يقال: إنَّ للحاصل في الجهاد دخلًا للعمل بخلاف الإرث وغيره، فإنَّه لا دخل للعمل، وعلى هذا فيمكن إدخال الجهاد في المكاسب، وعندي أنَّ الصنعة ليست مِنَ الأصول بل هي داخلة عندي في التِّجارة، فأصول المكاسب عندي ثلاثة: التِّجارة والزِّراعة والإجارة، وتقدَّم في كلام الحافظ الاختلاف في التَّفضيل بينها.
          وفي «البحر الرَّائق»: أفضل الكسب بعد الجهاد التِّجارة، ثمَّ الحراثة ثمَّ الصِّناعة. انتهى.
          وبسط الكلام عليه في «هامش اللَّامع» في مبدأ أبواب الحرث والمزارعة.


[1] النصوص الثَّلاثة منقولة من فتح الباري:4/304 مع اختصار بسيط
[2] قوله: ((أطيب الكسب)) ليس في (المطبوع)
[3] في (المطبوع): ((لأنها)).