الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب التعاون في بناء المسجد

          ░63▒ (بَابُ التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ المَسْجِدِ): بإفراد:(المسجد) لأكثر الرواة، وجمعه لأبي ذر عن الحموي، والمستملي.
          والتعاوُن _بضم الواو_ مصدر تعاون القوم: تساعدوا، والمراد: جواز التعاون في بنائه، بل ندب ذلك، ومن زاد / في معاونته زاد أجره وليست مثل الصلاة والصوم حتى يمتنع فيهما المساعدة.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ ╡): كذا للكشميهني على ما في القسطلاني، لكن عزاها في ((الفتح)) و(العمدة) إلى الأكثرين.
          كذا في ((الفتح)) وزاد في آخره:<إلى قوله: {الْمُهْتَدِينَ}>.
          ولأبي ذر: <{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} [التوبة:17] إلى قوله: {الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]>، من غير ذكر: <وقول الله ╡>، وعزاها القسطلاني للأصيلي، لكن بجمع:<مساجد> وزيادة:<{الْمُهْتَدِينَ}>، وجعل رواية أبي ذر بلفظ: <{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} الآية> وإفراد:<مسجد> وزيادة:<الآية>، فاعرفه.
          ولابن عساكر:<قوله تعالى> من غير عاطف.
          وقال في (المنحة): في نسخة: (وقول الله تعالى).
          ({مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ}): أي: ما صح للكفار وما استقام لهم ({أَنْ يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اللَّهِ}): قرأه بالإفراد ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب.
          قال في ((الفتح)): وذكر المصنف لهذه الآية لمصيره إلى ترجيح أحد الاحتمالين من الآية؛ لأن قوله: ({مَسَاجِدَ الله}) يحتمل أن يراد بها موضع السجود، وأن يراد بها المساجد المعروفة، وعلى الثاني: يحتمل أن يراد بعمارتها: بنيانها، وأن يراد بها: الإقامة فيها لذكر الله تعالى
          واعترضه العيني فقال: ما قاله لا يناسب معنى هذه الآية أصلاً، وإنما يناسب: ({إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ}) الآية، مع أن ما قاله لم يذكره أحد من المفسرين، وإنما هو تصرف منه بالرأي في القرآن، وهو لا يجوز، فيجب الإعراض عنه.
          وأقول: دعواه عدم مناسبة ما قاله ((الفتح)) لمعنى هذه الآية وحصره المناسبة لمعنى الثانية غير ظاهر كما هو ظاهر، وكذا دعواه أن ما قاله لم يذكره أحد من المفسرين فنذكر لك عبارة البغوي إمام المفسرين، بل إمام أهل السنة ومحييها لتعلم بها اندفاع ما ذكره العيني.
          قال في تفسير هذه الآية: أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأن المساجد، إنما تعمر لعبادة الله وحده فمن كان كافراً بالله، فليس من شأنه أن يعمرها، فذهب جماعة إلى أن المراد منه: العمارة المعروفة من بناء المسجد ومر منه عند الخراب، فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا يمتثل، وحمل بعضهم العمارة ههنا على دخول المسجد والقعود فيه. انتهت بحروفها.
          فانظر إلى قوله: فذهب جماعة..إلخ، تجده دافعاً للاعتراض بحذافيره، وما نقله العيني عن الزمخشري لا ينافي ما في ((الفتح))، فتأمله منصفاً.
          على أن الكرماني وغيره من الشراح حتى العيني، قال في كتاب الله: (أوفهم أعطيه رجل مسلم): وفيه: إرشاد إلى أن للعالم الفهم أن يستخرج من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولاً عن المفسرين بشرط موافقته للأصول الشرعية. انتهى، فاعرفه.
          وأعجب من قول العيني وتشنيعه، والمراد به المسجد الحرام، ويدل له قوله تعالى: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة:19]، وقوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة:28]، وكذا سبب نزول الآية.
          ففي ((الكشاف)) قيل: أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك وطفق علي ☺ يوبخ العباس بقتال رسول الله صلعم وقطيعة الرحم وأغلظ له في القول فقال العباس: تذكرون مساوئنا، وتكتمون محاسننا؟ فقالوا: أولكم محاسن؟ فقالوا: نعم، ونحن أفضل منكم أجراً إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني، فنزلت. ولا يرد على هذا التوجيه القراءة بالجمع التي هي قراءة الأكثرين لتجويزهم / أن يراد بها: المسجد الحرام، وإنما جمع لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر سائر المساجد، أو لأن كل بقعة منه مسجد. قاله في ((الكشاف)) وهو مروي عن الحسن البصري.
          وقال القزاز: ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون فيقول: أخذت في ركوب البراذين ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار ويريد الدراهم والدنانير.
          ويحتمل أن ترجع قراءة الإفراد إلى الجمع بأن يراد بالمسجد: الجنس الصادق بأي فرد كان، ويكون معنى الآية: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا شيئاً من المساجد، ولا يصلحون لعمارتها، ويدخل فيها المسجد الحرام دخولاً أولياً.
          قال في ((الكشاف)): وإذا لم يصلحوا؛ لأن يعمروا جنسها دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد؛ لأن طريقته الكناية كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله تعالى كنت أنفي لقراءته القرآن من تصريحك بذلك. انتهى.
          ولعل هذا مراد البيضاوي بقوله: شيئاً من المساجد فضلاً عن المسجد الحرام. انتهى.
          وإن كان فيه خفاء؛ فإن ظاهره: أن المراد بالمساجد: ما عدا المسجد الحرام، وأنه أولى بأن لا يعمروه، فتأمل
          ({شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ} [التوبة:17]): الظرفان متعلقان بشاهدين وهو حال من فاعل ({يَعْمُرُواْ}): أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة بيت الله وكفرهم بالله بعبادة غيره.
          قال في ((الكشاف)): ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة، ويقولون: لا نطوف علينا ثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا شوطاً سجدوا لها، وقيل: هو قولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. انتهى.
          وأقول: يعني: فلم يصرحوا بقولهم نحن كفار؛ ولكن فعلهم شاهد عليهم بكفرهم.
          ونقل البغوي عن السدي: أن شهادتهم على أنفسهم بالكفر: أن النصراني يسأل من أنت؟ فيقول نصراني، واليهودي يقول: أنا يهودي، ويقال للمشرك: ما دينك فيقول: مشرك. انتهى.
          ({أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}): لأنها لغير الله تعالى.
          قال في ((الكشاف)): هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العاني.
          وهي بمعنى قول البيضاوي: التي يفتخرون بها.
          وأقول: الأولى: العموم؛ لأن أعمال الكفار كلها مردودة لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان:23]
          ({وَفِي النَّارِ}): أي: لا في غيرها ({هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة:17]): أي: لكفرهم لا غيرهم من المسلمين؛ فإنهم وإن عذب منهم من يعذب؛ فإنهم بفضله تعالى إلى الجنة صائرون ({إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:18]):
          قال في ((الكشاف)): وقرئ بالتوحيد
          ({مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}): أي: والإيمان برسوله قرين الإيمان بالله تعالى فاكتفى به عن ذكره وقيل: استغناء عنه بـ({أَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}) ({وَاليَوْمِ الآخِرِ}): ({مَنْ}): الموصولة أو النكرة الموصوفة فاعل:({يَعْمُرُ}) المقدم عليه المفعول اعتناء بالمساجد ({وَأَقَامَ الصَّلَاةَ}): معطوفة على ({آمن})
          ({وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة:18]): أي: ولم يخف في الدين غير الله ولم يترك أمر الله لخشية غيره، قاله البغوي.
          وقال في ((الكشاف)): فإن قلت: المؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضى الله رضى غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه حق الله، وحق نفسه قدم حق الله تعالى على حق نفسه.
          وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفي تلك الخشية عنهم.
          وهذه الآية مستأنفة / استئنافاً بيانياً كالمؤكدة بمضمون السابقة ومعناه: إنما تستقيم عمارة المساجد لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية. ومن عمارتها: تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج، والمصابيح ورم ما وهي منها وإصلاحه، وقمها، وتنظيفها، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومنه درس العلم بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث
          ({فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} [التوبة:17-18]): جمع مراعاة لمعنى ({مِنَ}): بعد الإفراد لمراعاة لفظها.
          قال البيضاوي: ذكره بصيغة التوقع قطعاً لأطماع المشركين في الاهتداء، والانتفاع بأعمالهم، وتوبيخاً لهم بالقطع بأنهم مهتدون؛ فإن هؤلاء مع كمالهم إذا كان اهتداؤهم دائر بين عسى، ولعل فما ظنك بأضدادهم؟ ومنعاً للمؤمنين أن يغتروا بأعمالهم.
          وقال العيني: ذكر البخاري هذه الآية من جملة الترجمة، وحديث الباب لا يطابقها، فلو ذكر قوله تعالى: ({إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ}) الآية لكان أجدر وأقرب للمطابقة؛ ولكن يمكن أن يوجه وإن كان فيه بعض تعسف: بأنه أشار به إلى أن التعاون في بناء المساجد المعتبر الذي فيه الأجر إنما يكون للمؤمنين دون الكافرين. انتهى.
          وأقول: الآيتان مذكورتان في رواية أبي ذر التي ذكرها العيني أيضاً فبهذا
          هذا، والآيتان دالتان على فضيلة تعمير المساجد، ومدح العامرين بها بأحد الأمرين السابقين أوبهما معاً، ومما ورد في ذلك ما رواه عبد بن حميد في ((مسنده)) عن أنس بن مالك أنه قال: (كان رسول الله قال: (إن عمار المساجد هم أهل الله). ورواه البزار أيضاً.
          وفي البغوي بسنده إلى أبي هريرة: أن النبي قال: (من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا وراح) وفيه بسنده إلى عثمان: أنه أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك وأحبوا أن يدعه، فقال عثمان: سمعت رسول الله صلعم يقول: (من بنى لله مسجداً بنى الله له قصراً كهيئته في الجنة) وفي لفظ له من طريق آخر: (بنى الله له بيتاً في الجنة).
          وقال في ((الكشاف)): وعن النبي: (يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا لا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة) وعنه: (الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش)، وقال ◙: (إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زواري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره)، وعنه: (من ألف المساجد ألفه الله)، وقال ◙: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)، وعن أنس: من أسرج في المسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه.