الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما يذكر في الفخذ

          ░12▒ (بَابُ مَا يُذْكَرُ): بالبناء للمفعول (فِي الفَخِذِ): وللكشميهني: <من الفخذ>: أي: من حكمها هل هي عورة أم لا؟ وفي الفخذ أربع لغات مشهورة تجرى في نظائرها
          (وَيُرْوَى): بالبناء للمجهول، ولأبوي ذر والوقت: <قال أبو عبد الله _أي: البخاري_ ويروي> (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ): ☻، التعليق عن ابن عباس، وصله الترمذي، وفي إسناده أبو يحيى القتات _بقاف فمثناة مشددة فألف فمثناة فوقية أيضاً_ ضعيف مشهور بكنيته، واختلف في اسمه على ستة أقوال أو سبعة: أشهرها: دينار، ولفظه: (الفخذ عورة).
          وأما تعليق جرهد فوصله مالك في ((الموطأ)) والترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه، وضعفه المصنف في ((التاريخ)) للاضطراب في إسناده، ورواه الترمذي بسنده إلى جرهد، وقال: حديث حسن قال: مر النبي بجرهد في المسجد وقد انكشف فخذه، فقال: (إن الفخذ عورة)
          (وَجَرْهَدٍ): قال الكرماني: بفتح الجيم والهاء وسكون الراء وبدال مهملة: هو أبو عبد الرحمن بن خويلد الأسلمي المدني، وكان من أهل الصفة، مات سنة إحدى وستين. انتهى.
          وأقول: الذي في ((التقريب)) للحافظ ابن حجر: جرهد بن رِزاح _بكسر الراء بعدها زاي وآخره مهملة_ الأسلمي، مدني له صحبة، وكان من أهل الصفة، ويقال: مات سنة إحدى وستين. انتهى.
          ولم يذكر جرهداً غيره لا ابن خويلد ولا غيره، فليتأمل، ولعل أحدهما نسبه إلى الأب حقيقة والآخر لغيره، فليحرر.
          ثم رأيت العيني قال في ((التهذيب)): جرهد الأسلمي: هو ابن رزاخ بن عدي، وقيل: غير ذلك، له صحبة عدادة في أهل المدينة، له حديث واحد: (الفخذ عورة).
          وقال / في (الاستيعاب): قال الزهري: جرهد بن خويلد، وقال غيره: جرهد بن رزاخ بن عدي بن سهم، وقال غيره: جرهد بن خويلد، بن بحرة، بن عبد ياليل، بن زرعة، بن رزاح، يكنى جرهد: بأبي عبد الرحمن، وجعل ابن أبي حاتم جرهد بن خويلد غير جرهد بن رزاح، وهو غلط، بل هو رجل واحد من أسلم لا يكاد يثبت له صحبة، روي له حديث: (الفخذ عورة) وهو مضطرب. انتهى ملخصاً.
          وفي ((القاموس)): الجرهد:كجعفر وسنبل السيار النسيط، وجرهد بن خويلد: صحابي
          (وَمُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ): نسبه لجده لشهرته به وإلا فأبوه عبد الله الأسدي، ابن أخي زينب أم المؤمنين، كنيته: أبو عبد الله.
          وقال الواقدي: ولد قبل المبعث بخمس سنين، والصحيح: أنه صحابي صغير ابن صحابي كبير، فإن محمداً كان صغيراً في عهد النبي صلعم؛ لكنه حفظ عنه، بدليل حديثه هذا فقد وصله أحمد والمصنف في ((التاريخ)) والحاكم في ((المستدرك)) بسندهم الصحيح إليه قال: مر النبي صلعم وأنا معه على معمر وفخذاه مكشوفتان، فقال النبي: (يا معمر غط عليك فخذيك فإن الفخذين عورة)، ومعمر هذا: هو ابن عبد الله بن نضلة القرشي العدوي.
          قال في ((الفتح)): ووقع في حديث محمد بن جحش مسلسلاً بالمحمدين من ابتدائه إلى انتهائه، وقد أمليته في (الأربعين المتباينة)
          (عَنِ النَّبِيِّ صلعم: الْفَخِذُ عَوْرَةٌ. وَقَالَ أَنَسٌ): مما وصله المصنف في هذا الباب وللأصيلي: <وقال أنس بن مالك>
          (حَسَرَ): بمهملات مفتوحات؛ أي: كشف (النَّبِيُّ صلعم عَنْ فَخِذِهِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ): ولابن عساكر:<قال أبو عبد الله>: أي: المصنف <وحديث أنس> (أَسْنَدُ): أي: أصح إسناداً، كأنه يقول: حديث جرهد ولو قلنا بصحته مرجوح بالنسبة لحديث أنس
          (وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ): أي: ومن معه كابن عباس (أَحْوَطُ): أي: أكثر احتياطاً من حديث أنس للدين، وهو يحتمل الوجوب والورع؛ لكن الثاني أقرب لقوله: (حَتَّى يُخْرَجَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ): أي: العلماء، و(حتى): تعليلة أو للغاية و(يُخرج): بالبناء للمفعول في الأكثر، وأوله مثناة تحتية، وفي رواية _ونسبت للفرع_ بالبناء للفاعل وضم الراء.
          وقال في ((الفتح)): روايتنا: بفتح النون وضم الراء وفي غيرها: بضم الياء وفتح الراء.
          وقد يشكل بناء أفعل التفضيل في (أسند) و(أحوط)، مع أن فعليهما ليسا بمجردين.
          وأجاب الدماميني عن الأول: بأن الفعل إذا كان على أفعل _كمسألتنا_ فهو مقيس عند سيبويه وناهيك به، ولم يتعرض للثاني لا سؤالاً ولا جواباً فراجعه، ولعله من الشاذ المسموع.
          وقد تقدم بيان اختلاف العلماء في العورة ولنذكر اختلافهم هنا أيضاً فنقول: ذهب جماعة منهم: محمد بن أبي ذئب، وإسماعيل بن علية، ومحمد بن جرير الطبري، وداود الظاهري، وأحمد في رواية، والاصطخري، وابن حزم، وهو ظاهر صنيع البخاري _كما مر_ إلى أن الفخذ ليس بعورة أخذا بحديث أنس الذي هو أصح إسناداً، وذهب الجمهور من العلماء والتابعين وغيرهم إلى أنها عورة، منهم: أبو حنيفة، وصاحباه، وزفر، والشافعي، ومالك في أصح أقواله، وأحمد في أصح الروايتين، وقال الأوزاعي: الفخذ عورة إلا في الحمام.
          وفي ((التوضيح)) لابن الملقن: حاصل ما في عورة الرجل عندنا خمسة أوجه:
          أصحها _وهو المنصوص_ أنه ما بين السرة والركبة، وهما ليسا بعورة، وهو صحيح مذهب أحمد بن حنبل، وقال به زفر ومالك.
          وثانيهما: أنهما عورة، كرواية عن أبي حنيفة.
          وثالثها: السرة دون الركبة. /
          ورابعها: عكسه.
          وخامسها: للاصطخري: القبل والدبر.
          قال الكرماني: فإن قلت: حديث أنس حجة على الشافعية فما جوابك عنه؟ قلت: ذاك محمول على غير اختيار الرسول فيه بسبب ازدحام الناس، يدل عليه مس ركبة أنس فخذه صلعم كما سيجيء، أو أنهم أخذوا فيه بالأحوط.
          وزاد في (المنحة): بأن كشفه صلعم كان قبل الحكم بأنه عورة. انتهى.
          وقال القرطبي: يرجح حديث جرهد أن تلك الأحاديث المعارضة له قضايا معينة في أوقات وأحوال مخصوصة يتطرق إليها الاحتمال ما لا يتطرق لحديث جرهد؛ فإنه أفاد حكماً كلياً، فكان أولى؛ لأن تلك الوقائع تحتمل خصوصية النبي بذلك أو البقاء على البراءة الأصلية أو كأن لم يحكم عليه في ذلك الوقت بشيء ثم بعده حكم عليه بأنه عورة.
          وقال العيني: قال ابن بطال: أجمعوا على أن من صلى مكشوف العورة لا إعادة عليه، قلت: دعوى الإجماع غير صحيحة، فيكون مراده: إجماع أهل مذهبه. انتهى.
          وأقول: كيف يصح والخلاف في مذهبهم شهير
          (وَقَالَ أَبُو مُوسَى): أي: الأشعري ☺، هو طرف من حديث وصله المؤلف في المناقب، وفيه: أن النبي صلعم كان قاعداً في مكان فيه ماء قد انكشف عن ركبتيه _أو ركبته_ فلما دخل عثمان غطاها، وظهر بهذا الرد على الشارح الداوودي في زعمه أن هذا المعلق وهم، وأنه دخل حديث في حديث يعني هذا المعلق، وما رواه مسلم عن عائشة قالت: (كان رسول الله مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه _أو ساقيه_)، الحديث، وفيه: فلما استأذن عثمان (جلس)، وهو عند أحمد بالجزم بلفظ: (كاشفاً عن فخذه).
          وأخرجه الطحاوي، والبهيقي، وأحمد، والطبراني بسندهم إلى حفصة بنت عمر قالت: (كان رسول الله عندي يوماً وقد وضع ثوبه عن فخذيه، فجاء أبو بكر فاستأذن فأذن له النبي على هيئته، ثم جاء عمر بمثل هذه الصفة، ثم جاء أناس من أصحابه، والنبي صلعم على هيئته، ثم جاء عثمان فاستأذن عليه، فأذن له، ثم أخذ رسول الله صلعم ثوبه فجلله، فتحدثوا ثم خرجوا، فقلت: يا رسول الله! جاء أبو بكر وعمر وعلي وأناس من أصحابك وأنت على هيئتك فلما جاء عثمان تجللت ثوبك؟ فقال: (أولا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة؟)، قالت: وسمعت أبي وغيره يحدثون نحواً من هذا.
          وقد بان بما تقرر أنه لم يدخل على البخاري حديث في حديث، بل هما قصتان متغايرتان: في إحداهما: كشف الركبة، وهي المعلقة هنا من رواية أبي موسى، وفي الأخرى: كشف الفخذ، وهي من رواية عائشة، ووافقتها حفصة، ولم يذكرها البخاري.
          وفي العيني: قال الطبري في (تهذيب الآثار): والأخبار التي رويت عن النبي: أنه دخل عليه أبو بكر وعمر وهو كاشف فخذه، واهية الأسانيد، لا يثبت بمثلها حجة في الدين بخلاف الأخبار الواردة بالأمر بتغطية الفخذ بالنهي عن كشفها أخبار صحاح، وأما حديث مسلم المار آنفاً ومثله حديث البيهقي في (سننه) وفيه ذكر كشف الفخذين، ففيه: أن البهيقي لما أخرجه قال: لا حجة فيه، وقال الشافعي: إنه مشكوك فيه؛ لأن الراوي قال: فخذيه _أو ساقيه_ فدل ذلك _كما قاله الطحاوي_ أن الحديث ليس فيه ذكر كشف الفخذين، وقال ابن عبد البر: هذا حديث مضطرب. انتهى ملخصاً، فتأمله
          وقوله: (غَطَّى النَّبِيُّ صلعم رُكْبَتَيْهِ): بالتثنية، / وفي رواية: بالإفراد: مقول القول.
          وقوله: (حِينَ دَخَلَ عُثْمَانُ): ☺: متعلق بـ(غطى)، فعل ذلك صلعم حياءً من عثمان، كما مر التصريح به فيما أخرجه مسلم وغيره، وقد كان ◙ يفعل مع كل واحد من أصحابه ما هو الغالب عليه، فكشف ركبتيه قبل دخول عثمان _كما مر_ دليل على أنها ليست بعورة، وتغطيتهما حين دخل عثمان للاستحياء منه لما مر لقوله: (ألا أستحيي ممن يستحي منه ملائكة السماء)، فلا يرد ما قال:إن الركبة إن كانت عورة فلم كشفها قبل دخول عثمان وإن لم تكن فلم غطاها حين دخوله؟
          ووجه المطابقة _كما قال الكرماني وغيره مع أن الترجمة في الفخذ_ أنه إذا كانت الركبة عورة فالفخذ بالطريق الأولى؛ لأنها أقرب إلى الفرج الذي هو عورة إجماعاً.
          وأقول فيه: إن البخاري لم يجزم بأن الفخذ عورة ليقال ما قاله، ولا يلزم كون الركبة ليست بعورة أن تكون الفخذ كذلك.
          ولعله لهذا عدل في (المنحة) عن هذا التوجيه إلى قوله: ووجه المطابقة للترجمة: أن حكم بعض الركبة حكم الفخذ. انتهى، فتأمل
          (وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ): أي: الصحابي: هو أبو سعيد وأبو خارجة الأنصاري النجاري، صحابي مشهور، من كتاب الوحي لرسول الله، روي له اثنان وتسعون حديثاً: روى البخاري منها تسعة، مات بالمدينة سنة خمس أو ثمان وأربعين، وقيل: بعد الخمسين وهو الذي قال فيه رسول الله صلعم كما روى أحمد بسند صحيح: (أفرضكم زيد)، وهو ممن جمع القرآن على عهد النبي صلعم، وكان من علماء الصحابة، وتعلم كتاب اليهود في نحو نصف شهر، والسريانية في نحو سبعة عشر يوماً، بأمره صلعم.
          وهذا التعليق طرف من حديث وصله المصنف في تفسير النساء
          (أَنْزَلَ اللَّهُ): ╡ (عَلَى رَسُولِهِ صلعم): أي: قوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [النساء:95] (وَفَخِذُهُ): بإثبات الواو لغير أبي ذر والكشميهني (عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ): بضم القاف؛ أي: فخذه عليه الصلاة والسلام (عَلَيَّ): بياء المتكلم (حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ): بفتح المثناة الفوقية، وضم الراء، ويجوز بناؤه للمفعول؛ أي: تكسر فقوله: (فَخِذِي): إما منصوب أو مرفوع.
          واعترض الإسماعيلي استدلال المصنف بهذا على أن الفخذ ليس بعورة: إذ لا دلالة فيه لنفي ولا إثبات؛ لأنه ليس فيه تصريح بعدم الحائل، ولا يظن أن الأصل عدم الحائل؛ لأن العضو الذي يقع عليه الاعتماد يخبر عنه معروف الموضع بخلاف الثوب. انتهى.
          وأقول: أجاب في ((الفتح)) فقال: والظاهر: أن المصنف تمسك بالأصل.
          واعترضه العيني، فقال: لم يبين مراده من الأصل وعلى كل حال لا يدل الحديث على مراده صريحاً.
          وأقول: إذا سلم دلالته كفت، وإن لم تكن صريحة، فتدبر.
          وقال الكرماني: وجه دلالته: أنه لما مس فخذه فخذ رسول الله علم أنها ليست بعورة، إذ مس العورة بدون حائل حرام كالنظر إليها.
          وأقول فيه: إن هذه الرواية ليس فيها مس، نعم هو في رواية أنس الآتية، وكأنه حمل هذه على تلك.