الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء

          ░1▒ (بَابٌ: كَيْفَ فُرِضَتِ الصلاة): وللكشميهني، والمستملي: <الصلوات>: بالجمع، والمفرد يراد به الجنس، فتتفق الروايتان، ويجري في (باب)، وتاليه ما مر في قوله: باب: كيف كان بدء الوحي، وصدر بهذا الباب دون غيره لتوقفها على معرفة الكيفية، لعدم صحتها بدون معرفتها، بل لعدم تصور، فعلها حينئذٍ بخلاف نحو الستر؛ فإنه يسقط عند العجز.
          وقال العيني: ذكر هذا الباب بعد قوله:(كتاب الصلاة): لأن الكتاب يشتمل على أمور الصلاة وأحوالها، ومن جملتها: معرفة كيفية فرضيتها؛ لأنها الأصل، والباقي عارض عليه وما بالذات مقدم على ما بالصفات. انتهى.
          وأقول: فيه: أن معرفة الكيفية عارض أيضاً لذات الصلاة، كما يشير إلى ذلك كلامه الآتي قريباً في توجيه قول ابن عباس، إلا أن يريد: / أنها كالأصل في توقف صحة الفعل عليها دائماً بخلاف الباقي، كما قدمنا، وحينئذ فيؤول إلى ما قدمناه، فتأمله بإنصاف.
          وقوله: (فِي الإِسْرَاءِ): أي: في ليلته متعلق بـ(فرضت)، وفيه إشارة إلى أن المعراج عند المؤلف كان ليلة الإسراء، إلا أن يقال: مراده بالإسراء: المعراج على ما قد يفهمه كلامه الآتي بما فيه؛ فإنه قد يطلق أحدهما على الآخر، كما قالوه كالفقير والمسكين، وإن كان المشهور الفرق بينهما بأن الإسراء: ما كان من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن أنكره يكفر للنص عليه في القرآن، والمعراج: ما كان من المسجد الأقصى إلى السموات العلى، وما فوقها إلى ما شاء الله، ومن أنكره فهو مبتدع، كما قاله ذلك السعد وغيره.
          وقد اختلف العلماء في وقت الإسراء والمعراج اختلافاً كثيراً مع اتفاقهم على أن فرضية الصلاة كانت ليلة الإسراء، فقيل: كانا قبل الهجرة بسنة، وعليه الأكثرون، ونسبه بعضهم إلى الزهري، والمشهور عنه ما سيأتي، وقيل: بسنة وثلاثة أشهر أو وخمسة، أو قبلها بثلاث سنين.
          وقال الزهري: كانا بعد مبعثه بخمس سنين.
          قال الكرماني: وهو الأشبه إذ لم يختلفوا أن خديجة ♦ صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة، إما بثلاث سنين، أو بخمس سنين، وعلى كل فهل كانا في سابع عشري ربيع الأول، كما قاله النووي في ((شرح مسلم))، وقال الحزبي في سابع عشري ربيع الآخر، وجرى عليه النووي في (فتاويه).
          وقيل: سابع عشري رجب، واختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي، وعليه عمل الناس، وقيل: وقيل: في شوال، وقيل: في ذي القعدة قبل الهجرة بستة عشر شهراً، وجرى عليه السدي، وقيل: في ذي الحجة، وقيل: في ليلة سبع عشرة من رمضان.
          وعلى الجميع فهل كان في ليلة الجمعة، أو السبت، أو الإثنين، واختاره ابن دحية، وقيل: إنه كان أول ليلة جمعة من رجب، قيل: ومن ثم اخترع بعضهم فيها صلاة، وسماها الرغائب، وهي بدعة قبيحة على الصحيح، نص على ذلك أئمتنا، وفيها كيفيات، فلا يجوز فعلها عندنا جماعة ولا فرادى على الصواب، ولا تنعقد.
          وقد ذكرنا مافيها من الخلاف، وبيان كيفياتها مع فوائد كثيرة متعلق بالإسراء وغيره في رسالتنا المسماة بـ(تحفة أهل الإيمان فيما يتعلق برجب وشعبان ورمضان) وعلى جميع الأقوال كانا في ليلة واحدة بجسده الشريف في يقظته صلعم، وهو المشهور عند الجمهور، وقيل: كانا في ليلة واحدة مناماً، قيل: ويدل له قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} [الإسراء:60] وقيل: وقعاً جميعاً مرتين في ليلتين مختلفتين: إحداهما يقظة، والأخرى مناماً، وقيل: كان الإسراء إلى بيت المقدس خاصة في اليقظة، وكان المعراج مناماً، إما في تلك الليلة أو غيرها، وقيل: كانا أربعاً وثلاثين: واحدة بجسمه، والباقي بروحه، وقيل: كانا ثلاثين، وإليه ذهب الشيخ الأكبر.
          قال في ((الفتح)): والذي ينبغي أن لا يجري فيه الخلاف: أن الإسراء إلى بيت المقدس كان في اليقظة لظاهر القرآن، ولكون قريش كذبته في ذلك، ولو كان مناماً لم تكذبه فيه، ولا في أبعد منه.
          وقد روى هذا الحديث عن النبي صلعم جماعة من الصحابة؛ لكن طرقه في ((الصحيحين)) تدور على أنس مع اختلاف أصحابه عنه، فرواه الزهري عنه عن أبي ذر كما في هذا الباب، ورواه قتادة عنه عن مالك بن صعصعة، ورواه شريك بن / أبي نمر، وثابت البناني عنه عن النبي صلعم، بلا واسطة، وفي سياق كل منهم ما ليس عند الآخر، والغرض من إيراده هنا ذكر فرض الصلاة، فليقع الاقتصار هنا على شرحه.
          ثم قال: والحكمة في وقوع فرض الصلاة ليلة المعراج: أنه لما قدس ظاهراً وباطناً بالإيمان، والحكمة حين غسل بماء زمزم، ومن شأن الصلاة أن يتقدمها الطهور ناسب ذلك أن تفرض الصلاة في تلك الحالة، وليظهر شرفه في الملأ الأعلى، ويصلي بمن سكنه من الأنبياء، والملائكة، وليناجي ربه، ومن ثم كان المصلي يناجي ربه. انتهى.
          وقيل: لما شاهد الملائكة تعبد ربها تعالى بأنواع العبادة ما بين راكع، وساجد، وقائم ففرضت عليه الصلاة الجامعة لما ذكر
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻): هذا التعليق وصله المصنف في بدء الوحي مطولاً (حَدَّثَنِي): بالإفراد (أَبُو سُفْيَانَ): صخر بن حرب، تقدمت ترجمته في بدء الوحي (فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ): وتقدم هناك، وأن المشهور فيه أنه بوزن دمشق، وقيل: بوزن زبرج (فَقَالَ): أي: أبو سفيان لهرقل: (يَأْمُرُنَا _يَعْنِي النَّبِيَّ صلعم_ بِالصَّلَاةِ): يجوز في النبي ضمه على الحكاية، فالنصب صفة؛ لأنه مفعول (يعني)، ويجوز نصبه بـ(يعني) من غير حكاية؛ أي: الخمس المعهودة التي هي عماد الدين، فقد روى الطبراني، والديلمي عن علي رفعه: (الصلاة عماد الدين، والجهاد سنام العمل، والزكاة نبت ذلك).
          لكن قاله ابن الصلاح: إنه غير معروف.
          ورواه أبو نعيم بسنده؛ لكنه مرسل، ورجاله ثقات بلفظ: (الصلاة عمود الدين)
          (وَالصِّدْقِ): تقدم أن ابن كمال باشا قال: يوصف به الخبر، فيفسر بمطابقة الخبر للواقع، ويوصف به المخبر، ويفسر بالإخبار عن الشيء مطابقاً للواقع، وأن المراد الثاني، فتدبر
          (وَالعَفَافِ): بفتح العين المهملة: الكف عن المحارم، وخوارم المروءة.
          وقد أخرجه المؤلف في أربعة عشر موضعاً، وأخرجه مسلم، وأصحاب السنن إلا ابن ماجه.
          قال في ((الفتح)): مناسبته لهذه الترجمة: أن فيه إشارة إلى أن الصلاة فرضت بمكة قبل الهجرة؛ لأن أبا سفيان لم يلق النبي صلعم بعد الهجرة إلى الوقت الذي اجتمع فيه بهرقل لقاء يتهيأ معه أن يكون أمراً له بطريق الحقيقة، والإسراء كان قبل الهجرة، بلا خلاف، وبيان الوقت، وإن لم يكن من الكيفية حقيقة؛ لكنه من جملة مقدماتها، كما وقع نظير ذلك أول الكتاب في: كيف كان بدء الوحي، وساق فيه ما يتعلق بالمتعلق بذلك، فظهرت المناسبة.
          واعترضه العيني فقال: الترجمة في كيفية الفرضية، لا في بيان وقت الفرض، فكيف تظهر المناسبة؟ لكن يمكن أن توجه: بأن معرفة كيفية الشيء بالشيء تستدعي معرفة ذاته قبلها، فأشار بهذا أولاً إلى ذات الصلاة من حيث الفرضية، ثم أشار إلى كيفية فرضيتها بحديث الإسراء، فصار ذكر قول ابن عباس توطئة لبيان كيفيتها، فبهذا الوجه دخل تحت الترجمة. انتهى، فليتأمل.