الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الصلاة على الحصير

          ░20▒ (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الحَصِيرِ): تقدم الفرق قريباً بينها وبين الخمرة، وسميت حصيراً؛ لأنها تفرش على وجه الأرض وهو يسمى حصيراً.
          وقال في (الجمهرة): الحصير: عربي، سمي حصيراً لانضمام بعضها إلى بعض، ففعيل بمعنى فاعل أو مفعول.
          ومراد المصنف بهذه الترجمة: صحة الصلاة على الحصير، كما يدل لذلك حديث أنس، وأما الآثار التي أوردها في الترجمة فلمناسبتها للترجمة من جهة أن فيها صلاة على غير الأرض لئلا يتخيل متخيل أن مباشرة الأرض شرط لقوله صلعم في الحديث المشهور الذي أخرجه أبو داود وغيره: (ثوب وجهك) وتقدم أثر عمر بن عبد العزيز. وذكر العيني وجهاً آخر ادعى / أنه أقوى، فليتأمل.
          وأشار بها إلى ضعف الحديث الذي أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عن يزيد بن المقدام عن أبيه سريح بن هانئ أنه سأل عائشة: أكان النبي يصلي على الحصير والله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:8] ؟ فقالت: لم يكن يصلي على الحصير، وذلك لأن يزيد بن المقدام ضعيف، أو لأن الحديث عارضه ما هو أقوى منه
          (وَصَلَّى جَابِرٌ): أي: <ابن عبد الله> كما لأبوي ذر والوقت (وَأَبُو سَعِيدٍ): أي: الخدري (فِي السَّفِينَةِ قَائِماً): بالإفراد في الفرع: حال من فاعل (صلى) المتعدد على معنى كل واحد منهما، أو يحتمل أنه حذف الحال من أحدهما. وفي غير (الفرع): (قياماً): إما مصدر بمعنى الفاعل، أو جمع قائم، وأراد به المثنى.
          وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي عتبة مولى أنس قال: سافرت مع أبي الدرداء وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأناس سماهم، قال: فكان إمامنا يصلي بنا في السفينة قائماً ونصلي خلفه قياماً ولو شئنا لأرفينا؛ أي لأرسينا، يقال: أرسى السفينة: بالسين المهملة، وأرفى _بالفاء_ إذا وقف بها على الشط
          (وَقَالَ الحَسَنُ): أي: البصري: (تُصَلَّي): بتاء الخطاب فيه وفي الفعلين بعده لغير أبي ذر، وله: بياء الغيبة فيها وبضمير الغائب في (أصحابك)، وفي الفرع: (وقال الحسن: قائماً..إلخ): بإسقاط:(تصلي) (قَائِماً مَا لَمْ تَشُقَّ عَلَى أَصْحَابِكَ): أي: بالقيام في السفينة.
          وجملة: (تَدُورُ مَعَهَا): أي: مع أصحابك، كما قاله البرماوي تبعاً للكرماني، أو مع السفينة كما قاله العيني (كالفتح) وهو أظهر: حال ثانية من فاعل (تصلي) أو من (أصحابك) أو مستأنفة اسنئنافاً بيانياً (وَإِلَّا): أي: بأن كان يشق عليهم (فَقَاعِداً): أي: فصل قاعداً لأجل أصحابك، وإن لم يشق عليك القيام، أو الخروج منها حيث شق عليهم؛ لأن الحرج في هذه الملة مرفوع عنها.
          قال في ((الفتح)): وقد روينا أثر الحسن من رواية النسائي عن عاصم الأحول قال: سألت الحسن، وابن سيرين، والشعبي عن الصلاة في السفينة فكلهم يقول: إن قدر على الخروج فليخرج، غير الحسن؛ فإنه قال: إن لم يؤذ أصحابه، فإن آذاهم فليصل قاعداً، وروى ابن أبي شيبة عن الثلاثة المذكورين أنهم قالوا: صل في السفينة قائماً، وقال الحسن: لا تشق على أصحابك، وفي (تاريخ البخاري) من طريق هشام قال: سمعت الحسن يقول: در من السفينة كما تدور إذا صليت.
          وقال العيني: وفي رواية الربيع بن صبيح: أن الحسن ومحمداً قالا: يصلون فيها قياماً جماعة ويدورون مع القبلة حيث دارت، والبخاري اقتصر على الحسن. انتهى.
          وأقول: لعله لم يثبت عنده ما نقل عن محمد _يعني ابن سيرين_
          قال في ((الفتح)): وأشار البخاري إلى خلاف أبي حنيفة في تجويزه الصلاة في السفينة قاعداً مع القدرة على القيام _أي: وأما البخاري كالجمهور، فلا تصح الصلاة عندهم في السفينة إلا قائماً ما لم يكن عذر_
          ولا يختص الخلاف بأبي حنيفة، فقد قال الكرماني: قال ابن بطال: أجاز قوم من السلف أن يصلوا في السفينة جلوساً، وهو قول أبي حنيفة. انتهى.
          وقال العيني: وقال أبو حنيفة: تجوز قائماً وقاعداً، بعذر وبغير عذر، وبه قال الحسن بن مالك وأبو قلابة / وطاووس، روى عنهم ابن أبي شيبة، وروي أيضاً عن مجاهد، أن جنادة بن أبي أمية قال: كنا نغزوا معه لكنا نصلي في السفينة قعوداً. ولأن الغالب دوران الرأس، فصار كالمحقق، والأولى أن يخرج إن استطاع الخروج منها. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز قاعداً إلا من عذر؛ لأن القيام ركن فلا يترك إلا من عذر.
          والخلاف في غير المربوطة، ولو كانت مربوطة لم يجز قاعداً إجماعاً، وقيل: يجوز عنده في حالتي الإجزاء والإرساء، ويلزمه التوجه عند الافتتاح، وكلما دارت السفينة؛ لأنها في حقه كالبيت حتى لا يتطوع فيها مومئاً مع القدرة على الركوع والسجود، بخلاف راكب الدابة. انتهى.