الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب

          ░53▒ (بَابُ الصَّلَاةِ): أي: جوازها (فِي مَوَاضِعِ الخَسْفِ): بالجمع، وللأصيلي: <في موضع>: بالإفراد (وَالعَذَابِ): أي: باب بيان حكمها فيهما، وهو الكراهة عنده كما يأتي، وذكر (العذاب) بعد (الخسف) من العام بعد الخاص؛ لأن الخسف من أفراد العذاب؛ فإن الخسف للمكان: ذهابه في الأرض
          (وَيُذْكَرُ): هذا التعليق مما وصله ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي المُحِلّ _بضم الميم وكسر الحاء المهملة وتشديد اللام_ قال: كنا مع علي، فمررنا على الخسف الذي ببابل، فلم يصل حتى أجازه؛ أي: تعداه، ومن طريق أخرى عن علي قال: ما كنت لأصلي في أرض خسف الله بها، ثلاث مرار.
          قال في ((الفتح)): والظاهر أن قوله: ثلاث مرار، ليس متعلقاً بالخسف لأنه ليس فيه إلا خسف واحد، وإنما أراد الراوي أن علياً قال ذلك ثلاثاً.
          ورواه أبو داود مرفوعاً من وجه آخر عن علي: أنه مر ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذن بصلاة القصر، فلما برز منها أتى المؤذن فأقام، فلما فرغ من الصلاة، قال: (نهاني حبي صلعم)، وفي لفظ: (إن حبيبي صلعم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة).
          قال في ((الفتح)): في إسناده ضعف، واللائق بتعليق المصنف ما تقدم.
          وأقول: كلاهما لائق به، والثاني: أليق؛ لأنه أورده بصيغة التمريض، فتأمل.
          والمراد بالخسف: ما ذكر الله تعالى في قوله: {فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} الآية [النحل:26]، فقد ذكر أهل التفسير والأخبار أن المراد بذلك: ما بناه نمروذ بن كنعان؛ فإنه بنى ببابل بنياناً عظيماً، يقال: له المجدل؛ أي: القصر، يقال: إن ارتفاعه إلى السماء / كان خمسة آلاف ذراع، فخسف الله به.
          وقال البيضاوي: هو على سبيل التمثيل، وقيل: المراد به: نمروذ ابن كنعان، بنى الصرح ببابل سمكه خمسة آلاف ذراع ليترصد أمر السماء فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا.
          وبابل _كما قال أبو عبيد البكري_ بالعراق، مدينة معروفة بالسحر سميت ببابل؛ لأنه بات الناس ولسانهم سرياني، فأصبحوا وقد تفرقت لغاتهم على اثنين وسبعين لساناً، كل يبلبل بلسانه، فسمي الموضع بابلاً.
          وقال المهداني: وربما سموا العراق بابلاً.
          وذكر الطبري في (تفسيره): أن بابل: اسم قرية أو موضع من مواضع، واختلف أهل التأويل فيها، فقال السدي: هي بابل دنباوند، وقال بعضهم: بالعراق، كما ورد في حديث مروي عن عائشة ♦،
          ويقرب منه قول البيضاوي: والمشهور أنه بلد من سواد الكوفة.
          وقول ((القاموس)): بابل: كصاحب، موضع بالعراق إليه ينسب السحر والخمر
          (أَنَّ عَلِيّاً): أي: ابن أبي طالب (☺ كَرِهَ الصَّلَاةَ بِخَسْفِ بَابِلَ): لا ينصرف للعلمية والتأنيث.
          ومطابقة هذا الأثر للترجمة ظاهرة، وهو دال على أن المصنف يرى كراهة الصلاة في ذلك، وإنما أبهم في الترجمة للخلاف في ذلك، وهو مذهب أحمد أيضاً.
          قال في (المنتهى) و((شرحه)): ويكره الصلاة بأرض الخسف، قاله أحمد ☼.
          لكن قال الخطابي: لا أعلم أحداً من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل؛ فإن كان حديث علي ثابتاً، فلعله نهاه أن يتخذها وطناً؛ لأنه إذا أقام بها كانت صلاته بها _يعني: أطلق الملزوم وأراد اللازم فالملازمة شرعية_ ثم قال: فيحتمل أن النهي خاص به إنذاراً له بما لقي من الفتنة بالعراق.