الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الصلاة في مواضع الإبل

          ░50▒ (بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الإِبِلِ): وفي بعض النسخ: (موضع): بالإفراد.
          قال في ((الفتح)): كأنه يشير إلى أن الأحاديث الواردة في التفرقة بين الإبل والغنم ليست على شرطه؛ لكن لها طرق قوية منها: حديث جابر، وسردها، ثم قال: وذهب بعضهم إلى أن النهي خاص بالمعاطن، إلى أن قال: وفرق بعضهم بين الواحد منها وبين كونها مجتمعة.
          واعترضه العيني بقوله: ليت شعري ما وجه هذه الإشارة وبما دل على ما ذكره؟
          وأقول: لعل وجه الإشارة: إفراد الصلاة في مواضع الإبل بترجمة كترجمة مرابض الغنم كراهة الصلاة فيها، فلو ثبتت عنده على شرطه لذكر الكراهة فيها، فافهم.
          وتعبير المصنف بالمواضع الأعم من المعاطن؛ لأنها مواضع إقامتها عند الماء خاصة والمواضع أعم إما لأنه لا يرى الكراهة فيها مطلقاً، أو لأنه يخصها بالمعاطن، لكن الظاهر أنه يريد الأول؛ فإنه لم يورد في الباب ما يدل للكراهة، بل يدل لعدمها، وإن اعترض عليه الإسماعيلي: بأنه لا يلزم من الصلاة إلى البعير، وجعله سترة عدم كراهة الصلاة في مبركه وعطنه؛ فإنه أجيب: بأن مراد البخاري: الإشارة إلى ما ذكر من علة النهي عن ذلك، وهي كونها خلقت من الشياطين كما في حديث ابن مغفل وغيره؛ فكأنه يقول: لو كان ذلك مانعاً من صحة الصلاة لامتنع مثله في جعلها أمام المصلي.
          واعترض العيني على الجواب: بأنه بعيد عن موقع الخطاب؛ فإنه لم يذكر شيئاً في كتابه من أحاديث النهي عن الصلاة في معاطن الإبل فضلاً / عن علة النهي عن ذلك، وإنما ذكرها غيره، وأطال في بيانها. انتهى ملخصاً.
          وأقول: ليس الجواب لابن حجر حتى ينسبه إليه؛ ولئن سلم فلا يرد عليه ما قاله؛ لأنه لم يدع أنه هو الذاكر لعلة النهي؛ لأن ذكر يحتمل أنه مبني للمفعول لا للفاعل، فلا يرد ما ذكره. نعم قد يقال عليه: إنه ليس الغرض بيان صحة الصلاة إليها وعدمها فقط، بل المراد: بيان كراهتها وعدمها، فلو زاد في الجواب: أو كان ذلك مقتضياً للكراهة لاقتضاها في جعلها أمامه؛ فإن الخلاف بين العلماء في الأمرين معاً، كما سيأتي قريباً، فتأمله منصفاً.
          وما ذكرناه من إبقاء المواضع على عمومها أولى من قول القسطلاني تبعاً (للمنحة): أي: معاطنها؛ فإن الحكم أعم، وإن أمكن أن يقال: إذا لم تكره في المعاطن ففي غيرها من باب أولى.
          وأولى من قول العيني: إن أراد من (مواضع الإبل): معاطنها، فالصلاة فيها مكروهة عند قوم خلافاً لآخرين، وأن أراد بها أعم من ذلك، فالصلاة فيها غير مكروهة بلا خلاف، وعلى كلا التقديرين لم يذكر في الباب حديثاً يدل على أحد الفعلين، وإنما ذكر فيه الصلاة إلى البعير، وهو لا يطابق الترجمة، وذلك لأن نفيه الخلاف في الشق الثاني غير مسلم بلا خلاف إذ من أفراده الصلاة في معاطنها، والخلاف فيها ثابت كما قاله آنفاً.
          وتفصيل الخلاف: أن الشافعي ومالكاً يقولان: بكراهة الصلاة في أعطان الإبل، ويعيد عند أصبغ في الوقت. وقال خليل: وفي الإعادة قولان.
          فقيل: العلة فيها: أن من عادة أصحاب الإبل التغوط بقربها فينجسون أعطانها، ومن عادة أصحاب الغنم عدمه، وقيل _وهو الأظهر_ بل العلة ما يخاف من وثوبها وعطب من يلاقيها حينئذ، لما روى أبو داود من حديث البراء: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين)، وفي رواية لابن ماجه: (فإنها خلقت من الشياطين)، بل في حديث: (إن على سنام كل واحد منها شيطانين).
          وأول ابن حبان حديث: (فإنها خلقت من الشياطين) بالمراد: خلقت معها، وإلا لم يصل عليها النبي الوتر والنافلة.
          ورد: بأنه إن أريد خلقها معها حقيقة لم يصح؛ لأن الجن خلقوا قبل الإنس والحيوان بأزمنة كثيرة، وإن أريد المبالغة في نفورها وشرودها اتجه ما قاله، وهذا الحديث يدل على أنها مخلوقة من الجن؛ لأن الشياطين من الجن على الصحيح، ولهذا جاء عن يحيى بن آدم أنه قال: إنها جن خلقت من جن. وليس العلة في النهي كون أبوالها، وأرواثها في معاطنها كما قيل به؛ لأن مرابض الغنم كذلك، فمن جعل أبوال الإبل طاهرة أو نجسة فأبوال الغنم عنده كذلك.
          لكن تعقب هذا النظر: بأن التفرقة بينهما ثابتة بالأحاديث الصحيحة التي منها خبر أحمد وغيره الآتي فلا يعارض بالقياس اتفاقاً.
          والكراهة عند الشافعية لا تختص بمعاطنها، بل تكون في جميع محالها ولو طاهراً خشية من نفارها؛ لكنها في المعاطن أشد، نعم لا كراهة في الصلاة في مواضعها حال غيبتها إذا كانت طاهرة.
          واعتمد الرملي _كابن حجر_ أن نحو البقر كالغنم، فلا تكره الصلاة في مرابضها، وإن نظر فيه الزركشي، إن كانت طاهرة وإلا فتكره للنجاسة إذا كان حائل، وأما في الإبل فتكره لشيئين: خشية النفار وللنجاسة.
          وأما ما في ((مسند أحمد)) من حديث ابن عمرو: (أن النبي كان يصلي في مرابد الغنم ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر) فقال في ((الفتح)): سنده ضعيف، قال: ولو ثبت لأفاد أن حكم البقر كالإبل / بخلاف ما ذكره ابن المنذر: أن البقر في ذلك كالغنم.
          وأما مذهب أحمد: فتحرم الصلاة فيها ولا تصح.
          قال في (المنتهى): ولا يصح تعبداً صلاة في أعطان إبل، وهي ما تقيم فيها وتأوي إليها.
          قال شارحه: وقيل: مكان اجتماعها إذا صدرت عن المنهل لما روى أحمد، وأبو داود عن البراء بن عازب: أن النبي قال: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في مبارك الإبل)، وذكر الأحاديث الواردة في ذلك، ثم قال: لا فرق في المعاطن بين أن تكون فيها إبل عند الصلاة أو لا.
          وظاهر كلام العيني: أن المرجح عند أحمد: أن الصلاة صحيحة في أعطان الإبل مع الكراهة حيث قال: وكرهها الحسن البصري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وعن أحمد في رواية مشهورة عنه: أنه إذا صلى في أعطان الإبل فصلاته فاسدة، وهو مذهب أهل الظاهر. انتهى.
          ولم أر في مذهبهم القول بالكراهة فقط مع صحة الصلاة فضلاً عن أنه مذهب أحمد، فراجعه.
          وأما مذهب الحنفية: فلم ينقل عنهم العيني لا بالتصريح بالكراهة ولا بعدمها، بل ربما يقتضي عدمها حيث قال بعد ذكر حديث: (جعلت لي الأرض مسجداً طهوراً): عمومه يدل على جواز الصلاة في أعطان الإبل وغيرها بعد أن كانت طاهرة، وهو مذهب جمهور العلماء، وإليه ذهب أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأبو يوسف، ومحمد، وآخرون.
          نعم قال في آخر كلامه: وجواب آخر عن الأحاديث المذكورة: أن النهي فيها للتنزيه كما أن الأمر في مرابض الغنم للإباحة، وليس للوجوب اتفاقاً ولا للندب. انتهى.
          وهذا أخذه من قول ((الفتح)): جمع بعض الأئمة بين عموم قوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، وبين أحاديث الباب بحملها على كراهة التنزيه، وهذا أولى. انتهى.
          ولم يفصح عن مذهبه مع أن الحكم مصرح به عندهم.
          قال في (النهر): ومن المكروهات أيضاً: الصلاة في مظان النجاسة كمعاطن الإبل، والمجزرة، والمغتسل، والحمام، وجزم في (زاد الفقير) لابن الهمام: بأنه إذا غسل موضعاً في الحمام وصلى فيه فلا بأس به، وكذا لو صلى في موضع نزع الثياب. انتهى ومثله في قاضي خان.