شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا

          ░63▒ باب: أخذ الصَّدقةِ مِنَ الأغنياِء وتردُّ في الفقراء حيث كانوا.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: (قَالَ(1) النَّبيُّ صلعم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ(2) حِينَ بَعَثَهُ إلى الْيَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ الكِتَاب(3) فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إلى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ(4)، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ على(5) فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا(6) بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ). [خ¦1496]
          قال المؤلِّف(7): قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} إلى {وابْنِ السَّبِيلِ}(8)[التوبة:60]، واختلف العلماء في الصَّدقات، هل هي مقسومةٌ على من سمَّى الله تعالى في هذه الآية؟ فقال مالك والثَّوريُّ وأبو حنيفة، وأصحابه: يجوز أن توضع الصَّدقة في صنفٍ واحدٍ من الأصناف المذكورة في الآية على قدر اجتهاد الإمام، وهو قول عطاء والنَّخعيِّ والحسن البصريِّ، وقال الشَّافعيُّ: هي مقسومة على ثمانية أصناف لا يُصرف منها سهم عن أهله ما وجدوا، وهو قول عِكْرِمَة وأخذ بظاهر(9) الآية، قال: وأجمعوا لو أنَّ رجلًا أوصى(10) بثلثه لثمانية أصناف لم يجز أن يجعل ذلك في صنفٍ واحدٍ، فكان ما أمر الله بقسمته على ثمانية أصناف(11) أولى ألَّا(12) يجعل في واحد، ومعنى الآية عند مالك والكوفيِّين: إعلام(13) من الله تعالى لمن تحلُّ له الصَّدقة، بدليل إجماع العلماء أنَّ العامل عليها لا يستحقُّ ثمنها، وإنَّما له بقدر عمالته، فدلَّ ذلك أنَّها ليست مقسومةٌ على ثمانية أصنافٍ بالتَّسوِّي(14)، واحتجُّوا بما رُوي عن حذيفة وابن عبَّاسٍ / أنَّهما قالا: إذا وضعتها في صنف واحد أجزأك، ولا مخالف لهما من الصَّحابة فهو كالإجماع، وقال مالك والكوفيُّون: المؤلَّفة قلوبهم قد سقطوا(15) ولا مؤلَّفة اليوم، وليس لأهل الذِّمَّة في بيت المال حقٌّ، وقال الشَّافعيُّ: المؤلَّفة قلوبهم(16) من دخل في الإسلام، ولا يُعطى مشرك يتألَّف على الإسلام.
          واختلفوا في نقل الصَّدقة من بلد إلى بلد، فقال الشَّافعيُّ: لا يجوز نقلها من بلد إلى بلد آخر، وقال مالك: إذا وُجد المستحقُّون للزَّكاة في البلد الَّذي تُؤخذ فيه لم تُنقل عنه(17) إلى بلد آخر، وذكر ابن الموَّاز عن مالك: لو أنَّ رجلًا بالشَّام أنفذ زكاته إلى المدينة كان صوابًا، ولو أنفذها إلى العراق لم أر به بأسًا، وقال أبو حنيفة: يجوز نقلها إلى بلد آخر مع وجود الفقراء في البلد الذي تُؤخذ منه(18)، وإن كنَّا نكرهه(19)، واحتجَّ الشَّافعيُّ بحديث معاذ(20) حين بُعث(21) إلى اليمن فأمره(22) أن يأخذ الزَّكاة(23) من أغنيائهم فيردَّها(24) في فقرائهم، فأخبر أنَّها تُردُّ في فقراء اليمن إذا أُخذت من أغنيائهم.
          واحتجَّ من أجاز نقلها إلى بلد آخر بما رُوي عن معاذ أنَّه قال لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خَمِيس أو لَبِيس في الصَّدقة، فإنَّها(25) أنفع لأهل المدينة، فأعلمهم أنَّه ينقلها إلى المدينة، وكان عديُّ بن حاتم(26) ينقل صدقة قومه إلى أبي بكر بالمدينة، فلم يُنكر ذلك عليه أحد من(27) الصَّحابة.
          وقوله: (وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ). فيه: أنَّ للإمام أن يعظ من ولَّاه النَّظر في أمور(28) رعيَّته، ويأمره بالعدل بينهم ويخوِّفه عاقبة الظُّلم ويحذِّره وباله، قال الله تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود:18]ولعنة الله الإبعاد من رحمته، والظُّلم محرَّم في كلِّ أمَّة، وقد جاء في الحديث أنَّ دَعوةَ المَظلُومِ لَا تُرَدُّ وإنْ كَانَت مِنْ كَافرٍ، ومعنى ذلك أنَّ الله تعالى لا يرضى ظلم الكافر كما لا يرضى ظلم المؤمن، وأخبر تعالى أنَّه لا يظلم النَّاس شيئًا، فدخل في عموم هذا اللَّفظ جميع النَّاس من مؤمنٍ وكافرٍ.


[1] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[2] قوله: ((بن جبل)) ليس في (م).
[3] في (م): ((كتاب))، وفي (ص): ((من أهل الكتاب)).
[4] زاد في (م): ((فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لك بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ)).
[5] في (م): ((في)).
[6] زاد في (م): ((لك)).
[7] قوله: ((قال المؤلف)) ليس في (م).
[8] في (ز) و(ص): ((ابن السبيل)) وفي (م): ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ)).
[9] زاد في (م): ((هذه)).
[10] في (م): ((وقد اجمعوا أن رجلًا لو أوصى)).
[11] قوله: ((أصناف)) ليس في (م).
[12] قوله: ((أن لا)) زيادة من (م).
[13] في (م): ((الإعلام)).
[14] في (م): ((بالسوية)).
[15] في (م): ((والمؤلفة قد بطلوا)).
[16] قوله: ((قلوبهم)) ليس في (م).
[17] في (م): ((لم تنقل الزكاة عنهم)).
[18] في (م): ((فيه)).
[19] في (م): ((كان يكرهه)).
[20] في (م): ((بأمر النبي صلعم معاذًا)).
[21] في (م): ((بعثه)).
[22] قوله: ((فأمره)) ليس في (م).
[23] في (م): ((الصدقة)).
[24] في (م): ((فترد)).
[25] في (م): ((فإنه)).
[26] في (م): ((خالد)).
[27] في (م): ((بحضرة)).
[28] في (م): ((أمر)).