شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب خرص التمر

          ░54▒ باب: خَرص التَّمر.
          فيه: أَبُو حُمَيْدٍ: (غَزَوْنَا مَعَ رَسُولُ اللهِ(1) صلعم غَزْوَةَ تَبُوكَ(2)، فَلَمَّا جَاوز(3) وَادِيَ الْقُرَى إِذَا امْرَأَةٌ في حَدِيقَةٍ لَهَا(4)، فَقَالَ(5) صلعم لأصْحَابِهِ: اخْرُصُوا، وَخَرَصَ رَسُولُ اللهِ(6) صلعم عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، فَقَالَ لَهَا: أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ قَالَ: أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، ولا(7) يَقُومَنَّ أَحَدٌ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ، فَعَقَلْنَاهَا(8) وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ(9) طَيِّءٍ، وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلعم بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ(10)، فَلَمَّا أَتَى وَادِيَ الْقُرَى قَالَ لِلْمَرْأَةِ: كَمْ جَاءَ(11) حَدِيقَتُكِ؟ قَالَتْ(12): عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، خَرْصَ رَسُول اللهِ صلعم، قَالَ النَّبيُّ(13) صلعم: إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إلى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فَلْيَتَعَجَّلْ، فَلَمَّا _قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ كَلِمَةً مَعْنَاهَا_ أَشْرَفَ(14) على الْمَدِينَةِ، قَالَ: هَذِهِ طَابَةُ، فَلَمَّا رَأَى(15) أُحُدًا قَالَ: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنْصَارِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ(16): دُورُ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ، أَوْ دُورُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَفِي كُلِّ دُورِ الأنْصَارِ(17) خَيْرٌ). [خ¦1481] [خ¦1482]
          قال الطَّحاويُّ: ذهب قوم إلى أنَّ الثَّمرة الَّتي يجب فيها العشر تخرص(18) وهي رطبٌ تمرًا فيُعلم مقدارها فتُسلَّم إلى أربابها(19) ويملك بذلك حقَّ الله فيها وتكون(20) عليه مثلها مكيلة ذلك تمرًا، وكذلك يفعل بالعنب(21)، واحتجُّوا بحديث أبي حميد، وفيه أنَّ النَّبيَّ صلعم خرصها وقال لأصحابه: (اخْرُصُوا)، وأنَّه بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فخرص عليهم النَّخل أوَّل ما تطيب التَّمر(22).
          قال ابن المنذر: ممَّن(23) كان يرى الخرص: عُمَر بن الخطاب / والقاسم بن محمَّد والحسن البصريُّ وعطاء و الزُّهريُّ ومالك والشَّافعيُّ وأبو ثورٍ وعامَّة أهل العلم، وخالف ذلك أبو حنيفة وأصحابه وقالوا: ليس في شيءٍ من الآثار المرويَّة بالخرص أنَّ الثَّمرة كانت رطبًا في وقت ما خُرصت، وكيف يجوز أن تكون رطبًا، فيُجعل لصاحبها فيها حقُّ الله بمكيلة ذلك تمرًا يكون عليه نسيئة، وقد نهى رسول الله صلعم عن(24) ذلك.
          قال الطَّحاويُّ: ووجه الخرص عندنا إنَّما أُريد بخرص ابن رواحة ليعلم به(25) مقدار ما في أيدي كلِّ قوم من الثِّمار، فيُؤخذ منه بقدره(26) وقت الصِّرام لا أنَّهم يملكون(27) شيئًا ممَّا يجب لله ببدل لا يُؤخذ منهم ذلك الوقت، ويدلُّ على ذلك حديث أبي حميد السَّاعديِّ(28) وهو قوله: (فَخَرَصَها رَسُولُ اللهِ وخَرَصناهَا عَشرَةَ أوسُقٍ، وقَالَ: أَحصِها حَتَّى نَرجِعَ إِلَيكِ إنْ شاءَ اللهُ)، فدلَّ هذا أنَّها لم تُملك بخرصهم إيَّاها ما لم تكن له مالكة قبل ذلك، وإنَّما أرادوا أن يعلموا مقدار ما في نخلها(29)، ثمَّ يأخذون منها الزَّكاة وقت الصِّرام على حسب ما يجب فيها، هذا معنى الخرص عندنا.
          قالوا: وقد قيل في الخرص أنَّه كان في أوَّل الزَّمان على ما قال أهل المقالة الأولى من تمليك الخراص أصحاب الثِّمار حقَّ الله فيها وهي رطب، ببدل يأخذونه منهم تمرًا، ثمَّ نُسخ ذلك بنسخ الرِّبا والمزابنة. قال غيره: وقالوا: إنَّ الخرص لا يوجب العلم والإحاطة، وقد يختلف فهو كالتَّبخيت والظَّنِّ اللَّذين لا يجوز الحكم بهما.
          قال ابن القصَّار: وما هرب منه أبو حنيفة من تضمين أرباب الأموال حقَّ الفقراء فإنَّ أصحاب مالك، وأصحاب الشَّافعيِّ(30) لا يضمِّنون أرباب الأموال(31) لأنَّ الثَّمرة لو تلفت بعد الخرص لم يضمِّنهم شيئًا. قال ابن المنذر: أجمع من يُحفظ عنه العلم(32) أنَّ الخارص إذا خرص التَّمر، ثمَّ أصابته جائحةٌ(33) لا شيء عليه إذا كان ذلك قبل الجداد.
          وقال(34) ابن القصَّار: ولا(35) نخرصها حتَّى يتصرَّف أصحاب الثِّمار بالأكل والبيع وغير ذلك إن اختاروا، فحينئذ يضمَّنون حقَّ الفقراء لأنَّنا(36) لو منعناهم من التَّصرُّف لحقتهم المشقَّة والضَّرر، ولو أبحنا لهم التَّصرُّف نقص حقُّ الفقراء(37)، فكان الحظُّ في خرصها عليهم ليُعلم مقدار ما يجب للفقراء، فإن سلمت أخذنا القدر الذي يجب(38) لهم، إلَّا أن يتصرَّفوا فيها فحينئذ يضمَّنون.
          ومن الحجَّة لنا أنَّ النَّبيَّ صلعم نهى عن المزابنة، وأرخص في العرايا أن تُباع بخرصها، فأجاز البيع إذا لم يُقصد به المزابنة في الخرص ليُعلم حظُّ المساكين ويُحفظ عليهم وليس ببيع، والخرص أولى أن يجوز، وقد ثبت ذلك عن(39) عائشة فقالت: ((خَرَصَ النَّبيُّ صلعم لِئَلَّا يَتلَفَ حَقُّ المَسَاكِينَ، وَلِيُحصِيَ الزَّكَاةَ قَبلَ أنْ تُؤكَلَ))، لأنَّه لو مُنع ربُّ المال من الاستمتاع بماله لأدَّى ذلك(40) الإضرار به، فكان في الخرص رفق بربِّ(41) المال والفقراء.
          وأمَّا قولهم: فإنَّ(42) الخرص منسوخٌ بنسخ الرِّبا، فالجواب: أنَّ بعض آية الرِّبا منسوخةٌ بالخرص ومخصوصةٌ به كما خُصَّت الحوالة من بيع الدَّين بالدَّين، والقرض من بيع الذَّهب والفضَّة بمثلهما إلى أجل، والإقالة والشَّركة من بيع الطَّعام قبل قبضِه، وكذلك العريَّة(43) ونفعها(44) من جملة المزابنة حين لم يقصد بها(45) المغابنة والمكايسة(46)، والخرص ليس بربا لأنَّه(47) لا نبيع شيئًا بأكثر منه، وإنَّما هو ليُعرف حقُّ المساكين، وقد أنفذ الأئمَّة بعد النَّبيِّ ◙ الخراص، وجرى العمل بذلك، فهي سنَّةٌ معمولٌ بها.
          وأمَّا قولهم: فإنَّ(48) الخرص ظنٌّ، فإنَّ الحكم قد ورد في الشَّريعة بغالب الظَّنِّ كثيرًا مع جواز وقوع الاختلاف فيه وعدم الإحاطة، ألا ترى أنَّ الحكم بقيم المتلفات إنَّما هو بالاجتهاد، وكذلك أمور الدِّيانات المستدلُّ عليها من العقليَّات والشَّرعيَّات قد صار أكثرها معرضًا للخلاف ومنازعة العقلاء، ولم يجب مع ذلك بطلان الاستدلال، ولأنَّ اختلاف المستدلِّين إنَّما هو خطأ(49) في الاستدلال، وكذلك حكم الحاكم قد يجوز مع(50) الخطأ، ولم يجب لذلك بطلان حكمه.
          وأمَّا خرص العنب فإنَّما هو بحديث(51) عتَّاب بن أسيد، رواه عبد الرَّحمن بن إسحاق وابن عيينة(52) عن الزُّهريِّ، عن سعيد بن المسيِّب عن عتَّاب بن أسيد قال: ((أمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلعم أنْ أخرُصَ العِنَبَ وآخُذَ زَكَاتَهُ زَبِيبًا، كَما تُؤخَذُ زَكاةُ النَّخلِ تمرًا)). وأجمعوا أنَّ الخرص في أوَّل ما يطيب التَّمر(53) ويزهي بصفرةِ أو حمرةٍ(54)، وكذلك العنب إذا جرى فيه الماء وصلُح للأكل، واختلفوا فيما يأكله الرَّجل من ثمره وزرعه قبل الحصاد والجداد، هل يُحْتسب(55) عليه أم لا؟ فقال مالك والثَّوريُّ وأبو حنيفة وزفر: يُحسب عليه ذلك(56)، وقال اللَّيثُ والشَّافعيُّ: لا يُحسب عليه، ويَترك له الخارص ما يأكله أهله رطبًا ولا يخرصه، والحجَّة لهما ما رواه الثَّوريُّ عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، قال: كان عُمَر بن الخطَّاب يأمر الخُرَّاص أن يخفِّفوا، وأن يرفعوا عنهم قدر ما يأكلون.
          قال(57) الشَّافعيُّ: قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام:141]يدلُّ أنَّه لا يحتسب بالمأكول قبل الحصاد، وحمل مالك ومن وافقه(58) قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} على العموم، أي(59) آتوا حقَّ جميع المأكول والباقي.
          قال المُهَلَّب: فيه(60): أنَّ الإمام يُدرِّب أصحابه ويعلِّمهم أمور الدُّنيا كما يعلِّمهم أمور الآخرة، وفيه: من علامات النُّبوَّة لأنَّه أخبر ◙ عن الرِّيح الَّتي هبَّت قبل كونها، وهذا لا يُعلم إلَّا بالوحي، وفيه: جواز قبول هدايا المشركين، وسيأتي مذاهب العلماء(61) في ذلك في كتاب الهبة، إن شاء الله. [خ¦2618]
          وقوله: (جَبَلٌ يُحِبُّنا وَنُحِبُّه) يعني أهل الجبل لقوله(62) تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا(63)}[يوسف:82]يريد أهلها، قال الخطَّابيُّ: فحمل الكلام على عمومه وحقيقته أولى من حمله على المجاز وتخصيصه من غير دليل، وقد ثبت أنَّ رسول الله ارتجَّ حراء تحته فقال: ((اثبُتْ، فَلَيسَ عَلَيكَ إلَّا نَبِيٌّ أو.....)) فسكن. وقد حنَّ الجذع اليابس، وكلمَّه الذِّئب وسجد له البعير، وأقبل إليه الثُّعبان، وسلَّم عليه الحجر وأخبره اللَّحم المسموم أنَّه مسموم، فلِمَ يُنكرُ حبُّ الجبل.(64)


[1] كتب فوقها في (م): ((النبي)).
[2] قوله: ((تبوك)) ليس في (م).
[3] في (م): ((جاء)).
[4] في (م): ((له)).
[5] زاد في (م): ((النبي)).
[6] في (م): ((النبي)).
[7] في (م): ((فلا)).
[8] في (م): ((فعقلناه)).
[9] في (م): ((بجبلي)).
[10] في (م): ((بحرهم)).
[11] زاد في (م): ((خرص)).
[12] زاد في (م): ((المرأة)).
[13] في (م): ((فقال النبي)).
[14] في (م): ((معي.. فلما أشرف)).
[15] في (م): ((فلما أشرف)).
[16] قوله: ((قالوا بلى قال)) ليس في (م).
[17] زاد في (ز) و(ص): ((يعني)).
[18] في (ز) و(ص): ((أنَّ التَّمرة يجب فيها الخرص)) والمثبت من (م).
[19] في (م): ((ربها)).
[20] في (م): ((ويكون)).
[21] في (م): ((في)).
[22] في (م): ((يطيب الثمر)).
[23] في (م): ((وممن)).
[24] قوله: ((عن)) ليس في (م).
[25] في (م): ((عندنا أنه إنما أريد به ليعلم)).
[26] زاد في (م): ((في)).
[27] زاد في (م): ((منه)).
[28] قوله: ((الساعدي)) ليس في (م).
[29] زاد في (م): ((منها)).
[30] في (م): ((أصحاب مالك والشافعي)).
[31] زاد في (م): ((الثمرية)).
[32] زاد في (م): ((على)).
[33] زاد في (م): ((أن)).
[34] في (م): ((قال)).
[35] في (ز): ((لأننا)) والمثبت من (م).
[36] في (م): ((لأنَّا)).
[37] في (م): ((المساكين)).
[38] في (م): ((وجب)).
[39] في (م): ((وقد بينت ذلك)).
[40] زاد في (م): ((إلى)).
[41] في (م): ((رب)).
[42] في (م): ((وقولهم إن)).
[43] في (م): ((وكالعرية)).
[44] في (م): ((وبيعها)).
[45] في (م): ((به)).
[46] قوله: ((والمكايسة)) ليس في (ز) والمثبت من (م).
[47] في (م): ((لأنَّا)).
[48] في (م): ((أن)).
[49] في (م): ((لخطأ)).
[50] في (م): ((معه)).
[51] في (م): ((لحديث)).
[52] في (م): ((رواه ابن عيينة)).
[53] في (م): ((الثمر)).
[54] في (م): ((بحمرة أو صفرة)).
[55] في (م): ((يحسب)).
[56] في (م): ((ذلك عليه)).
[57] في (م): ((وقال)).
[58] قوله: ((مالك ومن وافقه)) زيادة من (م).
[59] في (م): ((أن)).
[60] في (م): ((قال المهلب وفي حديث أبي حميد من الفقه)).
[61] في (ز): ((وسيأتي ما العلماء)) والمثبت من (م).
[62] في (م): ((كقوله)).
[63] قوله: ((التي كنا فيها)) ليس في (م).
[64] قوله: ((قال الخطابي: فحمل الكلام...... ينكر حب الجبل.)) ليس في (م).