شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافًا}

          ░53▒ بَاب: قَوْل الله(1) تعالى: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}[البقرة:273]وَكمُ(2) الْغِنَى، وَقَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (وَلا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ).
          يقَوْلِ اللهِ تعالى(3): {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا(4)}[البقرة:273]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ(5) صلعم: (لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذي تَرُدُّهُ الأُكْلَةَ وَالأُكْلَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى فيَسْتَحْيِي(6)، أَوْ لا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا). [خ¦1476]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ ◙(7): (لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذي يَطُوفُ على النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ). [خ¦1479]
          وفيه: الْمُغِيرَة: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ). [خ¦1477]
          وفيه: سَعْدٌ: (أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلعم رَهْطًا(8) وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ(9)، فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلعم فِيهِمْ(10) رَجُلًا لَمْ يُعْطِهِ، وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُمْتُ إلى رَسُولِ اللهِ صلعم فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ وَاللهِ إِنِّي لأرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: أَوْ مُسْلِمًا، قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ..) الحديث(11). قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنِّي لأعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ في النَّارِ على وَجْهِهِ). [خ¦1478]
          فيه(12): أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ(13) صلعم: (لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُوَ _أَحْسِبُهُ قَالَ: إلى الْجَبَلِ_ فَيَحْتَطِبَ فَيَبِيعَ(14) فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ). [خ¦1480]
          قال المؤلِّف: قال مجاهد في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللهِ}[البقرة:273]هم فقراء المهاجرين بالمدينة خاصَّة مع النَّبيِّ ◙ أمر بالصَّدقة(15) عليهم، وقيل: حصروا أنفسهم للغزو(16) ومنعهم فرض الجهاد من التَّصرُّف، وقيل: إنِّها(17) كانت الأرض كلُّها كفرًا(18) وحربًا على أهل البلاد(19) وكانوا لا يتوجَّهون جهة إلَّا لهم فيها عدوٌّ، فلا يستطيعون تصرُّفًا في البلاد ابتغاء المعاش فيستغنوا به عن الصَّدقة رهبة للعدوِّ وخوفًا على أنفسهم.
          وقوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}[البقرة:273]اختلف المفسِّرون في تأويله، فقيل: يسألون ولا يلحفون في المسألة(20)، وقيل: إنَّهم لا يسألون النَّاس أصلًا، قال ابن الأُدْفُويِّ(21): أي لا يكون منهم سؤالٌ فيكون منهم إلحاف ٌكما قال امرؤ القيس:
على لاحِبٍ لَا يَهتَدِي لمنَارِهِ(22)
          أي: ليس له منار يهتدي بها، والدَّليل على أنَّهم لا يسألون وصف الله لهم بالتَّعفُّف، ولو كانوا أهل مسألة لما كان التَّعفُّف من صفتهم.
          قال المؤلِّف: ويشهد لهذ التَّأويل قوله ◙: (لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذي يَطُوفُ على النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ)، واحتجَّ من أوجب لهم السُّؤال، ونفى عنهم الإلحاف بقوله في الحديث الأوَّل: (وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحي، أَوْ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا).
          قالوا: والمسألة بغير إلحاف مباحة إلى المضطر(23) إليها، يدلُّ على ذلك ما رواه مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسدٍ، عن(24) رسول الله صلعم قال: ((مَنْ سَأَلَ(25) النَّاسَ(26) وَلَهُ أوقِيَّةٌ أو عَدلُها فَقَد سَأَلَ إلحَافًا)) فدلَّ هذا الحديث أنَّ من لم يكن له أوقيَّةٌ(27) فهو غير ملحفٍ ولا ملومٍ في المسألة، ومن لم يكن ملومًا في مسألته فهو ممَّن يليق به اسم التَّعفُّف، وليس قول من قال: لو(28) كانوا أهل مسألة لما كان التَّعفُّف من صفتهم بصحيحٍ لأنَّ السُّؤال المذموم إنَّما هو لمن كان غنيًّا عنه لوجود أوقيَّة أو عدلها. فالحديثان مختلفان في المعنى لاختلاف ظاهرهما(29)، والحديث(30) الأول: نفى فيه الإلحاف، ودلَّ على السُّؤال. والحديث الثَّاني: نفى فيه السُّؤال أصلًا، وانتفى فيه الإلحاف بنفي السُّؤال، وإنَّما اختلف(31) الحديثان لاختلاف أحوال السَّائلين لأنَّ النَّاس يختلفون في هذا المعنى، فمنهم من يصبر عن(32) السُّؤال عند الحاجة / ويتعفَّف، ويدافع حاله، وينتظر الفرج من الله تعالى، ومنهم من لا يصبر ويسأل بحسب حاجته وكفايته، ومنهم من يسأل وهو يجدُّ للاستكثار(33)، وهذا هو الملحف الَّذي لا ينبغي له المسألة، وقد يُحتمل أن يكون الحديثان معناهما واحد في نفي السُّؤال أصلًا، ويحتمل أن يكونا جميعًا حقيقي المعنى في إثبات السُّؤال، ونفي الإلحاف.
          فإن قيل: كيف وقد قال في الحديث الواحد: لا يقوم فيسأل النَّاس؟ قيل: في أكثر أمره وغالب حاله، ويلزم نفسه التَّعفُّف عن المسألة حتَّى تغلبه الحاجة والفقر، ويقع سؤاله في النَّادر والشَّاذِّ، كما قال ◙: ((لَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ)) ومعلوم أنَّه أراد في بعض الأوقات، وكما قال: ((لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ)) وقد يحلُّ له في بعض الأوقات، ومن كان سؤاله عند الضَّرورة وفي النَّادر فليس بملحف في المسألة، واسم التَّعفُّف أولى به لدليل حديث عطاء بن يسارٍ(34).
          وقوله: (لَيْسَ الْمِسْكِينُ الذي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ) يريد ليس المسكين المتكامل(35) أسباب المسكنة لأنَّه بمسألته يأتيه الكفاف والزِّيادة عليه، فيزولُ عنه اسم المبالغة في المسكنة، وإنَّما المسكين المتكامل أسباب المسكنة من لا يجد غنى ولا يُتصدَّق عليه كقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}[البقرة:177]أي: ليس ذلك غاية البرِّ لأنَّه لا يبلغ برَّ {مَنْ آمَنَ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ} الآية[البقرة:177].
          واختلف أهل اللُّغة(36) في الفقير والمسكين، من هو أسوأ حالًا منهما؟ فقال ابن السِّكِّيت وابن قتيبة: المسكين أسوأ حالًا من الفقير لأنَّ المسكين الذي قد سكن وخشع، والفقير له بعض ما يغنيه واحتجُّوا بقول الشَّاعر(37):
أمَّا الفَقيرُ الذي كَانَت حَلوبَتُهُ                     وَفقَ العِيالِ فَلَم يُترَك لَه سَبَدُ
          فذكر أنَّه كانت له حلوبة وجعلها وفقًا لعياله أي قدر قوتهم، وحكى ابن القصَّار أنَّ(38) هذا قول أصحاب مالك وقول أبي حنيفة.
          وقالت طائفةٌ: الفقير أسوأ حالًا من المسكين، هذا قول الأصمعيِّ وابن الأنباريِّ، وهو قول الشَّافعيُّ واحتجُّوا بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ}الآية[البقرة:273]، وبقوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}[الكهف:79]فأخبر أنَّ المسكين يملك بعض السَّفينة(39). قالوا: والفقر هو استئصال الشَّيء، يُقال: فقرتم(40) الفاقرة إذا أصابتهم داهية أهلكتهم، والفقير عند العرب الَّذي قد(41) انكسر فَقَار ظهره، ومن صار هكذا فقد حلَّ به الموت، وقد يُقال: مسكينٌ لغير الفقير، ولكن لمَّا نقصت حالته عن الكمال في بعض الأمور كما قال ◙(42): ((مِسْكِينٌ مِسْكِينٌ مَنْ لَا زَوجَةَ لَهُ ومِسكِينَةٌ مِسكِينَةٌ مَنْ لَا زَوجَ لهَا)) وقال لقَيْلَةَ: ((يَا مِسكِينَةُ عَلَيكِ بِالسَّكِينَةِ)) قالوا: وقد قال ◙: ((اللَّهُمَّ أَحيِنِي مِسكِينًا، وَأَمِتنِي مِسكِينًا، واحشُرنِي في زُمرَةِ المسَاكِينَ)) وتعوَّذ بالله من الفقر، فعلم أنَّه أسوأ حالًا وأشدُّ من المسكنة.
          وقد قالت(43) طائفةٌ من السَّلف: الفقير الَّذي لا يسأل، والمسكين الَّذي يسأل، رُوي هذا عن ابن عبَّاسٍ ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد و الزُّهريِّ، ورُوي عن(44) عليِّ بن زياد عن مالك أنَّه(45) قال: الفقير الَّذي لا غنى له ويتعفَّف عن المسألة، والمسكين الَّذي لا غنى له ويسأل(46).
          واختلفوا أيضًا كم الغنى الَّذي لا يجوز لصاحبه أخذ الصَّدقة، وتحرم عليه المسألة؟ وقال(47) بعضهم: هو بوجود المرء قوت يومه لغدائه وعشائه، وهذا قول بعض(48) المتصوِّفة الَّذين زعموا أنَّه ليس لأحدٍ ادِّخار شيء لغدٍ، وقولهم(49) مردود بما ثبت عن النَّبيِّ صلعم وأصحابه(50) أنَّهم كانوا يدَّخرون.
          وقال آخرون: لا تجوز(51) المسألة إلَّا عند الضَّرورة، وأحلُّوا ذلك محلَّ الميتة للمضطر، وقال آخرون: لا تحلُّ المسألة بكلِّ حالٍ، واحتجُّوا بما رُوي عنه ◙ أنَّه قال لأبي ذرٍّ: ((لَا تَسأَلِ النَّاسَ شَيئًا)) وجعلوا ذلك نهيًا عامًّا عن كلِّ مسألةٍ، وبما(52) رواه ابن أبي ذئبٍ عن محمَّد بن قيس، عن عبد الرَّحمن بن يزيد بن معاوية، عن ثوبان مولى رسول الله صلعم أنَّه قال ◙: ((مَنْ تَكَفَّلَ لِي بِوَاحِدَةٍ تَكَفَّلتُ لَهُ بِالجَنَّةِ))، قال ثوبان: أنا. قال: ((لَا تَسأَلِ النَّاسَ شَيئًا)) فكان / سوطه يقع فما يقول لأحدٍ ناولنيه، فينزل فيأخذه. وقال قيس بن عاصم لبنيه: إيَّاكم والمسألة فإنَّها آخر كسب المرء، فإنَّ أحدًا لن(53) يسأل إلَّا ترك كسبه.
          وقالت طائفةٌ: لا يأخذ الصَّدقة من(54) له أربعون درهمًا لقول النَّبيِّ(55) ◙: ((مَنْ سَأَلَ(56) وَلَهُ أوقِيَّةٌ أَو عَدلُها فَقَد سَأَلَ إلحَافًا))، وممَّن قال بذلك(57) أبو عبيد.
          وقالت طائفةٌ: لا تحلُّ الصَّدقة لمن له خمسون درهمًا، هذا قول النَّخَعِيِّ والثَّوريِّ وأحمد وإسحاق، واحتجُّوا بحديثٍ يُروى(58) عن ابن مسعودٍ عن النَّبيِّ بذلك، وعلَّله يحيى بن سعيد وشعبة فقالا: يرويه حكيم بن جبير، وهو ضعيفٌ.
          وقالت طائفةٌ: من ملك مائتي درهم تحرم عليه الصَّدقة المفروضة. وهذا(59) قول أبي حنيفة وأصحابه، ورواه المغيرة(60) عن مالك، وقال المغيرة: لا بأس أن يُعطى أقلَّ ممَّا تجب فيه الزَّكاة(61)، وروى عن مالكٍ أنَّه قال: يُعطى من له أربعون درهمًا إذا كان له عيال(62).
          واحتجَّ أصحاب أبي حنيفة بقوله ◙: ((أُمِرتُ أنْ آخُذَ الصَّدَقةَ مِنْ أَغنِيائِكُم وأَرُدَّهَا في فُقَرَائِكُم)) فجعل(63) المأخوذ منه(64) الزَّكاة غير المردود عليه، ومن معه مائتا درهم تُؤخذ منه الزَّكاة، فلم يجز أن تردَّ عليه لما فيه من إبطال الفرق بين الجنسين بين(65) الغنيِّ والفقير.
          قال الطَّحاويُّ: وقوله ◙(66) ((مَنْ سَألَ وَلَهُ أوقِيَّةٌ أو عَدلُها)) منسوخ بقوله ◙: ((مَنْ سَألَ ولهُ خَمسُ أَواقٍ فَقَد سَألَ إِلحَافًا)) فجعل هذا حدًّا لمن لا تحلُّ له الصَّدقة(67).
          قال بعض العلماء(68): وكلُّ من حدَّ من الفقهاء في الغنى حدًّا أو لم يحدَّ، فإنَّما هو بعد(69) ما لا غنى(70) عنه من دار تحمله ولا تفضل عنه، وخادمٍ هو محتاجٌ إليها، ولا فضل له من مالٍ يتصرَّف فيه، ومن كان هكذا فأجمع الفقهاء(71) أنَّه يجوز له أن يأخذ من الصَّدقة ما يحتاج إليه.
          قال الطَّبريُّ: والصَّواب عندنا في ذلك أنَّ المسألة مكروهةٌ لكلِّ أحدٍ إلَّا المضطر(72) يخاف على نفسه التَّلف بتركها، ومن بلغ حدَّ الخوف على نفسه من الجوع ولا سبيل(73) إلى ما يردُّ به رمقه ويقيم به نفسه إلَّا بالمسألة فالمسألة عليه فرض واجب لأنَّه لا يحلُّ له إتلاف نفسه(74) وهو يجد السَّبيل إلى إحيائها بما أباح الله له إحياءَها به(75)،والمسألة مباحة لمن كان ذا فاقة وإن(76) كرهناها له ما وجد عنها(77) مندوحة بما يقيم به رمقه من عيش وإن ضاق(78)، وإنَّما كرهناها له لقوله ◙: ((اليَدُ العُليَا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى))(79) ولا مأثم عليه إلَّا على سائلٍ سأل من(80) غنًى متكثِّرًا بها ماله فالمسألة(81) عليه حرامٌ.
          قال المُهَلَّب: وفي حديث سعدٍ من الفقه الشَّفاعة للرَّجل(82) من غير أن يسألها ثلاثًا(83) في الصَّدقات وغيرها، وفيه النَّهي عن القطع لأحدٍ من النَّاس بحقيقة الإيمان، وقد تقدَّم في كتاب الإيمان(84). [خ¦27]
          وفيه: أنَّ العالم يجب أن يدعو النَّاس إلى ما عنده(85) وإلى الحقِّ والعلم(86) بكلِّ شيء حتَّى بالعطاء.
          وفيه: أنَّ(87) الحرص على هداية غير المهتدي آكد من الإحسان إلى المهتدي، وفيه أنَّه قد يُعطى من المال أهل النِّفاق ومن على غير حقيقة الإسلام على وجه التألُّف إذا طُمع بإسلامه، وفي(88) أحاديث هذا الباب كلِّه(89) الأمر بالتَّعفُّف والاستغناء وترك السُّؤال.
          وقال(90) المؤلِّف: وفي دليل(91) قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ}[البقرة:273]ودليل قوله ◙: (لَأنْ يَأخُذَ أَحَدُكُم حَبلَهُ فَيَحتَطِبَ خَيرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسأَلَ(92) النَّاسَ) بيان ما رُوي عنه ◙ من قوله: ((لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ)) أنَّ معناه الخصوص لقوله(93) تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ}[البقرة:273]يدلُّ أنَّه لو زال عنهم الإحصار لقدروا على الضَّرب في الأرض، ودلَّ ذلك على أنَّهم ذوو(94) مرَّة أقوياء، وقد أباح لهم تعالى أخذ الصَّدقة بالفقر خاصَّة، وكذلك قوله: (لَأنْ يَأخُذَ أَحَدُكُم حَبلَهُ فَيَحتَطِبَ) يدلُّ على هذا المعنى لأنَّه لا يقدر على ذلك(95) إلَّا ذو المرَّة السَّويِّ، ولم تحرم عليه المسألة.
          قال الطَّحاويُّ: وقوله ◙: ((لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ)) رواه سفيان عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عَمْرو، عن النَّبيِّ صلعم، ورواه أبو بكر بن عيَّاش، عن أبي حصين، عن سالم بن(96) أبي الجعد، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ ◙، فذهب قوم إلى الأخذ بهذا الحديث(97)، وقالوا: لا تحلُّ الصَّدقة لذي مرَّةٍ سويٍّ، وجعلوه كالغنيِّ. هذا قول الشَّافعيِّ وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد، ذكره ابن المنذر، وذكر ابن القصَّار أنَّه قول عبد الله بن عَمْرو راوي الحديث عن النَّبيِّ صلعم.
          وخالفهم آخرون فقالوا: كلُّ فقير من قويٍّ وزَمِنٍ فالصَّدقة له حلال، وتأوَّلوا قوله: ((لَا تِحِلُّ الصَّدَقةَ لِغَنيٍّ ولَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ)) لأنَّ(98) معناه الخصوص، هذا قول الطَّبريِّ، قال: إنَّه(99) لا خلاف بين جميع علماء الأمَّة أنَّ الصَّدقة المحرَّمة التي يكون / أصلها محبوسًا وغلَّتها صدقة على الغنيِّ والفقير أنَّه يجوز للأغنياء أخذها وتملُّكها، فمعلوم بذلك أنَّ الصَّدقات التَّطوُّع لم تدخل في هذا(100) الحديث، وإنَّما عنى بها الصَّدقات(101) المفروضة للفقراء في بعض الأحوال، ولذلك(102) أجمعوا على أنَّ غنيًّا في بلده لو كان في سفرٍ فذهبت نفقته، فلم يجد ما يتحمَّل به إلى بلده أنَّ له أن يأخذ من الصَّدقة المفروضة ما يتحمَّل به إلى موضع ماله، فمعلومٌ بذلك أنَّ الحديث معناه الخصوص، وأنَّه معنيٌّ به من الصَّدقة المفروضة(103) بعضها لما ذكرناه(104)، ولأنَّ الله قد جعل في الصَّدقة المفروضة حقًّا لصنوف من الأغنياء وهم المجاهدون في سبيل الله، والعاملون عليها، وأبناء السَّبيل الَّذين لهم ببلدهم غنى، وهم منقطع بهم في سفرهم، فكذلك(105) ذو المرَّة السَّويُّ في حال تعذُّر الكسب عليه جاز له الصَّدقة المفروضة، فأمَّا التَّطوُّع منها ففي كلِّ الأحوال.
          وقال الطَّحاويُّ: لا تحرم الصَّدقة بالصِّحة إذا أراد بها سدَّ فقره، وإنَّما تحرم عليه إذا أراد بها التكثُّر والاستغناء، يدلُّ على ذلك ما رواه شعبة عن عبد الملك بن عمير عن زيد بن عقبة، قال: سمعت سَمُرة بن جُنْدبٍ عن النَّبيِّ صلعم قال: ((المسَائِلُ كُدُوحٌ(106) يَكدَحُ بِها الرَّجلُ(107) وجهَهُ، فمَنْ شَاءَ أَبقَى عَلَى(108) وَجهِهِ، ومَنْ شَاءَ تَرَكَهُ(109)، إلَّا أنْ يَسأَلَ ذا سُلطَانٍ، أو في أَمرٍ لَا يَجِدُ مِنهُ بُدًّا)) قد أباح(110) في هذا الحديث المسألة في كلِّ أمر لابدَّ من المسألة فيه، وذلك إباحة المسألة بالحاجة لا(111) بالزَّمانة.
          وروى يحيى بن سعيد عن مجالد، عن الشَّعبيِّ، عن وهب بن خَنبَش، قال: جاء رجل إلى النَّبيِّ صلعم وهو واقف بعرفة فسأله رداءه، فأعطاه إيَّاه، فذهب به(112)، ثمَّ قال النَّبيُّ صلعم: ((إنَّ المسألَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا مِنْ فَقرٍ مُدقِعٍ أو غُرمٍ مُفظِعٍ، ومَنْ سَأَلَ النَّاس ليَثرَى به، فإنَّه خمُوشٌ في وَجهِهِ، ورَضفٌ يأكلُهُ مِنْ جَهنَّمَ، إنْ قَلِيلٌ فَقَلِيلٌ، وإنْ كَثيرٌ فَكَثيرٌ))، فأخبر(113) صلعم في هذا الحديث أنَّ المسألة تحلُّ بالفقر والغرم، ولا يختلف في ذلك حال الزَّمن والصَّحيح.
          وكانت المسألة التي أباحها النَّبيُّ(114) صلعم(115) هي للفقر لا لغيره، وكان تصحيح الأخبار عندنا يوجب أنَّ من قصد إليه(116) النَّبيُّ ◙ بقوله: ((لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ)) هو غير من استثناه(117) في هذه الأحاديث(118)، وأنَّ الذي تحرم عليه الصَّدقة من الأصحَّاء هو الذي يريد أن يكثر ماله بالصَّدقة، حتَّى تصحَّ هذه الآثار وتتفِّق معانيها ولا تتضادَّ، وتوافق معنى الآية المحكمة، وهو(119) قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية[التوبة:60]لأنَّ كلَّ من وقع عليه اسم صنف من تلك الأصناف فهو من أهل الصَّدقة الَّتي جعلها الله لهم في كتابه وسنَّة رسوله زَمِنًا كان أو صحيحًا، وهذا الَّذي حملنا عليه وجوه(120) هذه الآثار هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمَّد.
          قال المؤلِّف: وهو قول مالك أيضًا، وروى المغيرة عنه أنَّه يُعطى القويُّ البدن من الزَّكاة ولا يمنع لقوَّة بدنه، من(121) «المجموعة».


[1] في (م): ((قوله)).
[2] في (ز) و(ص): ((وَحكم)) والمثبت من (م).
[3] في (م): ((وقوله تعالى)).
[4] قوله: ((لا يستطيعون ضربًا)) ليس في (م). وبدله في (م): ((الآية))، زاد في (ص): ((في الأرض)).
[5] في (م): ((فيه، قال أبو هريرة: قال النبي)).
[6] زاد في (م): ((ويستحيي)).
[7] قوله: ((وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبي ◙)) ليس في (م). وبدله في (م): ((وقال مرة)).
[8] في (م): ((فقراء)).
[9] زاد في (م): ((قال)).
[10] قوله: ((فيهم)) ليس في (ص).
[11] قوله: ((قَالَ: (فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ).. الحديث)) ليس في (م). وبدله في (م): ((ثلاثًا)).
[12] في (م) و(ص): ((وفيه)).
[13] زاد في (م): ((النبي)).
[14] قوله: ((فيبيع)) ليس في (م).
[15] في (م): ((مع النبي بالصدقة)).
[16] صورتها في (ص): ((للعدو)).
[17] قوله: ((إنها)) ليس في (م).
[18] زاد في (ز): ((بها)).
[19] في (م): ((البلد)).
[20] قوله: ((في المسألة)) ليس في (م).
[21] في (م): ((الأدفري)).
[22] في (م): ((بمنار)).
[23] في (م): ((للمضطر)).
[24] في (م): ((أن)).
[25] في (م): ((يسأل)).
[26] قوله: ((الناس)) ليس في (م).
[27] قوله: ((أوقية)) ليس في (م).
[28] في (م): ((ولو)).
[29] في (م): ((ظاهر ألفاظهما)).
[30] في (م): ((فالحديث)).
[31] في (م): ((اختلاف)).
[32] في (م): ((على)).
[33] في (م): ((الاستكثار)).
[34] قوله: ((وقد يُحتمل أن يكون الحديثان معناهما واحد...... عطاء بن يسار)) ليس في (م).
[35] في (م): ((المستكمل)).
[36] زاد في (م): ((والفقهاء)).
[37] في (م): ((الراعي)).
[38] في (م): ((أنه)).
[39] في (م): ((سفينة)).
[40] في (م): ((فقرتهم)).
[41] قوله: ((قد)) ليس في (م).
[42] قوله: ((مسكين لغير الفقير، ولكن...... قال ◙)) ليس في (م).
[43] في (م): ((وقالت)).
[44] في (م): ((وروى نحوه)).
[45] قوله: ((أنه)) ليس في (م).
[46] في (م): ((وهو يسأل)).
[47] في (م): ((فقال)).
[48] في (م): ((لبعض)).
[49] في (ز): ((قولهم)) والمثبت من (م) وفي (ص) غير واضحة الواو.
[50] قوله: ((وأصحابه)) ليس في (م).
[51] في (م): ((لا تحل)).
[52] قوله: ((رُوي عنه ◙ أنَّه قال لأبي ذرٍّ...... كل مسألة، وبما)) ليس في (م).
[53] في (م): ((لا)).
[54] في (م): ((لا تحل الصدقة لمن)).
[55] في (م): ((لقوله)).
[56] في (م): ((يسأل)).
[57] في (م): ((ذلك)).
[58] في (م): ((روي)).
[59] في (م): ((هذا)).
[60] زاد في (م): ((المخزومي)).
[61] زاد في (م): ((ولا يعط ما تجب فيه الزكاة)).
[62] قوله: ((وروى عن مالك أنه قال: يُعطى من له أربعون درهمًا إذا كان له عيال)) أتى في (م) قبل قوله السابق: ((وقالت طائفة: لا تحل الصدقة...)).
[63] في (ص): ((جعل)).
[64] زاد في (م): ((من)).
[65] في (م): ((من)).
[66] زاد في (ز) و(ص): ((أما وجد عنها مندوحة ما يقيم به من غنم وأوطان وأما))، وزاد في (م): ((المخزومي)).
[67] زاد في (م): ((ومن لا تحل)).
[68] في (م): ((قال غيره)).
[69] في (م): ((فإنه بعد)).
[70] زاد في (م): ((به)).
[71] في (م): ((فالفقهاء مجمعون)).
[72] في (م): ((لمضطر))، غير واضحة في (ص).
[73] زاد في (م): ((له)).
[74] قوله: ((إلَّا بالمسألة فالمسألة عليه فرض واجب لأنَّه لا يحلُّ له إتلاف نفسه)) ليس في (ص).
[75] قوله: ((بما أباح الله له إحياءَها به)) ليس في (ص).
[76] في (ص): ((فإن)).
[77] قوله: ((عنها)) ليس في (م).
[78] في (ز): ((خاف)) والمثبت من (م).
[79] زاد في (م): ولقوله: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل الناس له)).
[80] في (م): ((عن)).
[81] في (م): ((والمسألة)).
[82] زاد في (م): ((في)).
[83] قوله: ((ثلاثًا)) ليس في (م). وبدله في (م): ((وفيه تكرير الشفاعة المرة والثانية والثالثة)).
[84] قوله: ((وقد تقدم في كتاب الإيمان)) ليس في (م).
[85] في (م): ((عند الله)).
[86] قوله: ((والعلم)) ليس في (م).
[87] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[88] زاد في (م): ((جميع)).
[89] قوله: ((كله)) ليس في (م).
[90] في (م): ((قال)).
[91] قوله: ((دليل)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[92] في (م): ((يسأله)).
[93] في (م): ((لأن قوله)).
[94] في (ز) و(ص): ((ذو)) والمثبت من (م).
[95] في (م): ((الاحتطاب)).
[96] في (م): ((عن)).
[97] في (م): ((بهذه الآثار)).
[98] في (م)و (ص): ((أن)).
[99] في (م): ((لأنه)).
[100] في (م): ((معنى)).
[101] في (م): ((به الصدقة)).
[102] في (م) و(ص): ((وكذلك)).
[103] قوله: ((ما يتحمَّل به إلى موضع ماله،...... وأنَّه معنيٌّ به من الصَّدقة المفروضة)) ليس في (ص).
[104] في (م): ((ذكرنا)).
[105] في (م): ((وكذلك)).
[106] في (م): ((كدح)).
[107] في (م): ((الرجل بها)).
[108] قوله: ((على)) ليس في (ص).
[109] في (م): ((ترك)).
[110] في (م): ((فأباح)).
[111] في (م) صورتها: ((لأنا)).
[112] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[113] زاد في (م): ((رسول الله)).
[114] في (م): ((رسول الله)).
[115] زاد في (م): ((في هذه الآثار)).
[116] قوله: ((إليه)) ليس في (م) و(ص).
[117] زاد في (م): ((من ذلك)).
[118] في (ص): ((الآثار)).
[119] في (م): ((وهي)).
[120] قوله: ((وجوه)) ليس في (م).
[121] في (م): ((في)).