شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة ولا إشراف نفس

          ░51▒ باب: مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلا إِشْرَافِ نَفْسٍ.
          فيه: عُمَر قَالَ(1): (كَانَ النَّبيُّ صلعم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ). [خ¦1473]
          قال الطَّحاويُّ: ليس معنى هذا الحديث في الصَّدقات وإنَّما هو في الأموال الَّتي يقسمها الإمام على أغنياء المسلمين(2) وفقرائهم، فكانت تلك الأموال يُعطاها النَّاس لا من جهة الفقر ولكن(3) بحقوقهم فيها، فكره رسول الله صلعم لعمر حين أعطاه قوله: (أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي) لأنَّه إنَّما أعطاه لمعنى غير الفقر، ثمَّ قال له: ((خُذهُ فَتمَوَّلهُ))، هكذا رواه شعيب عن الزُّهريِّ، فدلَّ أنَّ ذلك ليس / من أموال الصَّدقات لأنَّ الفقير لا ينبغي له أن يأخذ من الصَّدقات ما ينبغي له(4) أن يتَّخذه مالًا كان عن مسألةٍ أو غير مسألةٍ، ثمَّ قال: إذا جاءك من هذا المال الَّذي هذا حكمه، فخذه.
          قال(5) الطَّبريُّ: اختلف العلماء في(6) قوله ◙ لعمر: (مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ فَخُذهُ) بعد إجماعهم على أنَّه أمرُ ندبٍ وإرشاد، فقال بعضهم: هو ندبٌ من النَّبيِّ ◙ لكلِّ(7) من أعطي عطيَّة إلى قبولها كائنًا من(8) كان معطيها، سلطانًا أو عاميًّا، صالحًا(9) أو فاسقًا، بعد أن يكون ممَّن تجوز عطيَّته.
          ذكر من قال ذلك: رُوي عن أبي هريرة أنَّه قال: ما أحد يهدي(10) إليَّ هديَّة إلَّا قبلتها، فأمَّا أن أسأل فلا. وعن أبي الدَّرداء مثله، وقبلت عائشة من معاوية، وقال حبيب بن أبي ثابت: رأيتُ هدايا المختار تأتي ابن عمر وابن عباس فيقبلانها، وقال عثمان بن عفَّان: جوائز السُّلطان لحم ظبي ذكيٍّ، وبعث سعيد بن العاص(11) إلى عليِّ بن أبي طالب هدايا(12) فقبلها، وقال: خذ ما أعطوك، وأجاز معاوية الحسينَ بأربعمائة ألف، وسُئل أبو جعفر محمَّد بن عليِّ بن حسين(13) عن هدايا السُّلطان، فقال: إن علمت أنَّه من غصبٍ أو سحتٍ فلا تقبله، وإن لم تعرف ذلك(14) فاقبله، فإنَّ بريرة تُصدِّق عليها بلحم فأهدته لآل النَّبيِّ صلعم، فقال(15) صلعم: ((هُوَ عَلَيها صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ))، وقال: ما كان من مأثمٍ فهو عليهم(16)، وما كان من مهنأ فهو لك. وقبلها علقمة والأسود والنَّخعيُّ والحسن البصريُّ والشَّعبيُّ.
          وقال آخرون: بل ذلك ندبٌ من النَّبيِّ صلعم أمَّته إلى قبول عطيَّة غير ذي سلطان، فأمَّا السُّلطان فإنَّ بعضهم كان يقول: حرام قبول عطيَّته، وبعضهم كرهها.
          ذكر من قال ذلك: رُوي أنَّ خالد بن أَسِيْد أعطى مسروقًا ثلاثين ألفًا، فأبى أن يقبلها، فقيل له: لو أخذتها فوصلت بها رحمك، فقال(17): أرأيتَ لو أنَّ لصًا نقب بيتًا ما أبالي أخذتها أم(18) أخذت ذلك. ولم يقبل ابن سيرين ولا أبو رَزين ولا ابن مُحَيْرِيز(19) من السُّلطان، وقال هشام بن عروة: بعث إليَّ عبد الله بن الزُّبير وإلى أخي بخمسمائة دينار، فقال(20) أخي: ردَّها(21) فما أكلها أحد وهو غنيٌّ عنها إلَّا أحوجه الله إليها.
          وقال ابن المنذر: كره جوائز السُّلطان: محمَّد بن واسع والثَّوريُّ وابن المبارك وأحمد بن حنبل(22).
          وقال آخرون: بل ذلك ندب إلى قبول هدية السُّلطان دون غيره. ورُوي(23) عن عِكْرِمَة أنَّه قال: إنَّا لا نقبل إلَّا من الأمراء.
          قال الطَّبريُّ: والصَّواب عندي أنَّه ندبٌ منه ◙(24) إلى قبول عطيَّة كلِّ معطٍ جائزٍ(25) عطيَّته، سلطانًا كان أو رعيَّةً، وذلك أنَّ الرَّسول ◙(26) قال لعمر: (مَا آتَاكَ اللهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فاقْبَلْهُ(27))، فندبه ◙ إلى قبول كلِّ ما آتاه الله من المال من جميع وجوهه من غير تخصيص وجهٍ من الوجوه دون غيره، سِوى ما(28) استثناه ◙، وذلك ما جاء من وجهٍ حرام عليه، فلا(29) يحلُّ له قبوله، كالَّذي يغصب رجلًا مسلمًا ماله ثمَّ يعطيه بعينه آخر، والَّذي يُعطاه يعلم غصبه أو سرقته(30) أو خيانته، فإن قبلَه كان واجبًا عليه ردُّه.
          فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من أنَّه لا يحرم على امرئ قبول عطيَّة أحد يجوز حكمه في ماله إلَّا عطيَّة حرَّم الله قبولها، فما وجه فعل من ردَّ عطايا السَّلاطين، وامتنع من قبول هدايا الأمراء، وقد ندب ◙ إلى قبول عطيَّة(31) كلِّ أحدٍ.
          قيل له: إنَّ من ردَّ من ذلك شيئًا إنَّما كان على من كان الأغلب من أمره أنَّه لا يأخذ المال من وجهه، فرأى أنَّ الأسلم لدينه والأبرأ لعرضه ترك قبوله إذ كان الأمر بالقبول غير حتم واجب، وإنَّما هو ندب إلى قبول ما لا شكَّ في حلِّه، فإذا كان فيه لبس فالحقُّ ترك قبوله، وما لم يكن حلالًا يقينًا فلم يدخل في أمره ◙(32) بقبول من أعطاه(33)، فأحلَّه محلَّ الشُّبهات الَّتي مَنْ وَاقَعَها لم يُؤمَنْ منه مواقعة الحرام.
          فإن قيل: فما تقول فيمن قبل ممَّن لم يتبيَّن(34) من أين أخذ المال ولا فيما(35) وضعه؟ قيل: ذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام(36): فما علمت يقينًا أنَّه حلالٌ فلا أستحبُّ ردَّه، وما علمتُ يقينًا أنَّه حرامٌ فلا أستحلُّ(37) قبوله، وما لم أعلم وجه مصيره ولا سبب وصوله إليه، فذلك ما قد وضع(38) عني تكلُّف البحث عن أسبابه، وألزمني في الظَّاهر الحكم بأنَّه أولى به من غيره، ما لم يستحقَّه عليه مستحقٌّ، كما أحكم بما في يد أعدل العدول أنَّه أولى بما في يده ما لم يستحقَّه عليه مستحقٌّ، فسوَّى ╡ بين حكم أفضل خلقه في ذلك وأفجرهم، فالواجب عليَّ التَّسوية في قبول عطيَّة كلِّ واحدٍ منهم(39) وردِّها من جهة ما يحلُّ ويحرم، وإن اختلفا في أنَّ البرَّ أحقُّ بأن تقبل عطيَّته(40) من الفاجر.
          فإن قيل: يجوز(41) على هذا مبايعة من يخالط / ماله الحرام وقبول هداياه. قيل: قد كره ذلك قومٌ(42) وأجازه آخرون، فممَّن كرِهَه عبد الله بن يزيد وأبو وائل والقاسم وسالم، ورُوي(43) أنَّه توفِّيت مولاة لسالم كانت تبيع الخمر بمصر فترك ميراثها، وكانت تبيع مولاة القاسم الفضَّة بالفضَّة متفاضلة(44) فترك ميراثها(45)، وقال مالك: قال عبد الله بن يزيد بن هُرمُز: إنِّي لأعجب ممَّن يُرزق الحلال فيرغب في الرِّبح فيه الشَّيء اليسير من الحرام فيفسد المال كلَّه، وكره الثَّوريُّ المال الذي يخالطه الحرام.
          وأمَّا الذين أجازوا ذلك فرُوي عن ابن مسعودٍ أنَّ رجلًا سأله فقال: لي جارٌ(46) لا يتورَّع من أكل الرِّبا ولا من أخذ ما لا يصلح، وهو يدعونا إلى طعامه، وتكون لنا(47) الحاجة فنستقرضه؟ فقال: أجبه إلى طعامه واستقرضه، فلك المهنأ وعليه المأثم، وسُئل ابن عمر عن أكل طعام من يأكل الرِّبا فأجازه، وسُئل النَّخَعِيُّ عن الرَّجل يرث الميراث منه الحلال والحرام، قال: لا يحرم عليه إلَّا حرام بعينه، وعن سعيد بن جبير أنَّه مرَّ بالعشَّارين وفي أيديهم شماريخ، فقال: ناولونا(48) من سُحتكم هذا إنَّه عليكم حرامٌ ولنا حلالٌ، وأجاز البصريُّ طعام(49) العشَّار والصرَّاف والعمَّال(50)، وعن مكحول والزُّهريِّ: إذا اختلط المال الحلال والحرام فلا بأس به، وإنَّما يكره من ذلك الشَّيء يُعرف بعينه، وأجاز ذلك ابن أبي ذئبٍ.
          قال ابن المنذر: واحتجَّ من رخَّص في ذلك بأنَّ الله تعالى ذكر اليهود فقال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}[المائدة:42]وقد رهن رسول الله(51) صلعم درعه عند يهوديٍّ.
          وقال الطَّبريُّ: في(52) إباحة الله أخذ الجزية من أهل الكتاب مع علمه بأنَّ أكثر أموالهم أثمان الخمور والخنازير وهم يتعاملون بالرِّبا أبين الدَّلالة على أنَّ من كان من أهل الإسلام بيده مال لا يُدرى أمن حرامٍ كسبه أم من حلالٍ، فإنَّه لا يحرم قبوله لمن أُعطيه، وإن كان(53) لا يبالي اكتسبه(54) من غير حلِّه بعد أن لا يعلمه حرامًا بعينه، وبنحو ذلك قالت الأئمَّة من الصَّحابة والتابعين، ومن كرهه فإنَّما ركب في ذلك طريق الورع وتجنُّب الشُّبهات، والاستبراء لدينه لأنَّ الحرام لا يكون إلَّا بيِّنًا غير مشكلٍ، والله الموفق.
          وقوله: (غَيرَ مُشرِفٍ) يعني غير متعرِّضٍ ولا حريصٍ عليه بشرَهٍ وطمعٍ، وأصله من قولهم: أشرفَ فلان على كذا، إذا تطاول له ورماه ببصره، ومنه قيل للمكان المرتفع شرف، وللشَّريف من الرِّجال شريف لارتفاعه عمَّن(55) هو(56) دونه بمكارم الأخلاق.
          قال المُهَلَّب: وفي حديث عمر من الفقه أنَّ للإمام أن يعطي الرَّجل العطاء وغيره أحوج إليه منه إذا رأى لذلك وجهًا لسابقةٍ أو لخيرٍ أو لغناء(57) عن المسلمين، وفيه أنَّ ما جاء من المال الطَّيِّب الحلال من غير مسألة(58) فإن أخذَه خير من تركه إذا كان ممَّن يجمل الأخذ منه، وفيه أنَّ ردَّ عطاء الإمام ليس من الأدب لأنَّه داخل تحت عموم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}[الحشر:7]فإذا لم يأخذه فكأنَّه لم يأتمر لله، فكأنَّه من سوء الأدب.


[1] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[2] في (م): ((الناس)).
[3] في (م): ((لكن)).
[4] قوله: ((ينغي له)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[5] في (م): ((وقال)).
[6] زاد في (م): ((معنى)).
[7] في (م): ((كل)).
[8] في (م): ((ما)).
[9] زاد في (م) و(ص): ((كان)).
[10] في (م): ((أهدى)).
[11] في (م): ((العاصي)).
[12] في (م): ((بهدايا)).
[13] في (ص): ((الحسين)).
[14] في (م): ((فإن لم تعرفه)).
[15] زاد في (م): ((النبي)).
[16] في (م): ((مأثم فعليهم)).
[17] في (م): ((قال)).
[18] في (م): ((أو)).
[19] في (م): ((ولا ابن محيرز ولا أبو رزين)).
[20] في (ص): ((قال)).
[21] في (م) و(ص): ((ردوها)).
[22] زاد في (م): ((وجماعة)).
[23] في (م): ((روي)).
[24] زاد في (م): ((أمته)).
[25] في (م): ((جائزة)).
[26] في (م): ((النبي ◙)).
[27] في (م): ((فخذه)).
[28] زاد في (م): ((قد)).
[29] في (م): ((حرام لا)).
[30] في (م): ((سرقه)).
[31] في (م): ((عطيته)).
[32] زاد في (م): ((عمر)).
[33] في (م): ((بقبوله ممن أعطاه)).
[34] في (م): ((يُبال)).
[35] في (م): ((فيم)).
[36] في (م): ((أوجه)).
[37] في (م): ((أستحب)).
[38] في (م) و(ص): ((وضع الله)).
[39] زاد في (م): ((منهما)).
[40] في (م): ((بأن يسر بقبول عطيته)).
[41] في (م): ((فيجوز)).
[42] في (م): ((قوم ذلك)).
[43] في (م): ((روي)).
[44] قوله: ((فترك ميراثها، وكانت تبيع مولاة القاسم الفضة بالفضة متفاضلة)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[45] زاد في (ص): ((أيضًا)).
[46] في (م): ((فقال إن لي جارًا)).
[47] في (م): ((بنا)).
[48] في (م): ((ناولوني)).
[49] في (م): ((وأجاز الحسن البصري أكل طعام)).
[50] في (م): ((والصراب والعامل)).
[51] في (م): ((النبي)).
[52] في (م): ((وفي)).
[53] زاد في (م): ((ممن)).
[54] في (م): ((اكتسابه)).
[55] في (م): ((على)).
[56] قوله: ((هو)) ليس في (ص).
[57] في (ص): وقع عليها حبر.
[58] في (م): ((المال من غير مسألة من الحلال الطيب)).