شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الاستعفاف عن المسألة

          ░50▒ بابُ: الاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ.
          فيه: أَبُو سَعِيدٍ الخدريُّ(1): (أنَّ نَاسًا مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلعم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ). [خ¦1469]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلعم(2): (وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ على ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ). [خ¦1470]
          وفيه: حَكِيمٌ(3): (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي(4)، ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، قَالَ حَكِيمٌ(5): فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا(6) حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا إلى الْعَطَاءِ(7) فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ(8) فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا(9)، فَقَالَ(10) عُمَرُ(11): أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ على حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ / مِنْ هَذَا الْفَيْءِ، فَيَأْبَى(12) أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلعم حَتَّى تُوُفِّي). [خ¦1472]
          في حديث أبي سعيد من الفقه: إعطاء السَّائل مرَّتين من مالٍ واحدٍ. وفيه: حجَّةٌ لمن يعطي الفقير باسم الفقر، وباسم ابن السَّبيل من مال واحد، وكذلك سائر سهام الصَّدقات(13)، ومثله(14) عندهم الوصايا، يجيزون لمن أُوصي له بشيء إذا قبضها(15) أن يُعطى مع المساكين إن كان ذلك الشَّيء لا يخرجه عن حدِّ المسكنة، وأبى(16) ذلك ابن القاسم وطائفةٌ من الكوفيِّين.
          وفيه: ما كان عليه رسول الله صلعم من الكرم والسَّخاء(17) والإيثار على نفسه. وفيه: الاعتذار للسَّائل(18) إذا لم يجد ما يعطيه. وفيه: الحضُّ على الاستغناء عن النَّاس بالصَّبر والتَّوكُّل على الله وانتظار رزق الله، وأنَّ الصَّبر أفضل ما أُعطِيه المؤمن، ولذلك الجزاء عليه غير مقدَّر ولا محدود، قال تعالى(19): {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر:10].
          وفي حديث أبي هريرة: الحضُّ على التَّعفُّف عن المسألة والتنزُّه عنها، وأن يمتهن المرء(20) نفسه في طلب الرِّزق وإن ركب المشقَّة في ذلك، ولا يكون عيالًا على النَّاس ولا كَلًّا(21)، وذلك لما يدخل على السَّائل من الذُّلِّ في سؤاله وفي الرَّدِّ إذا رُدَّ(22) خائبًا، ولما يدخل على المسؤول من الضِّيق في ماله إن هو أعطى لكلِّ سائل، ولهذا المعنى قال رسول الله ◙(23): (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى)، وكان مالك يرى ترك ما أُعطي الرَّجل على جهة الصَّدقة أحبَّ إليه من أخذه وإن لم يسأله.
          قال المُهَلَّب: في(24) حديث حكيم من الفقه أنَّ سؤال السُّلطان الأعلى ليس بعارٍ، وفيه(25): أنَّ السَّائل إذا ألحف لا بأس بردِّه وتخييبه وموعظته، وأمره بالتَّعفُّف وترك الحرص على الأخذ كما فعل النَّبيُّ ◙ بحكيم فأنجح(26) الله موعظته ومَحَا بِهَا حِرصه(27) فلم يرزأ أحدًا بعده.
          وقوله: (فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ) يدلُّ أنَّ القناعة وطلب الكفاية والإجمال في الطَّلب مقرونٌ بالبركة، وأنَّ من طلب المال بالشَّره والحرص فلم(28) يأخذه من حقِّه لم يبارك له فيه، وعُوقب بأن حُرم بركة ما جمع.
          وفي قوله: (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) فضل المال والغنى إذا أُنفق في طاعة الله، وفيه: بيان ألَّا يسأل(29) الإنسان شيئًا إلَّا عند الحاجة والضَّرورة لأنَّه إذا كانت يده سفلى(30) مع إباحة المسألة فهو أحرى أن يمتنع من ذلك عند غير الضَّرورة.
          وفيه من الفقه: أنَّ من كان له عند أحد حقٌّ(31) من تعامل أو غيره فإنَّه يجبر(32) على أخذه إذا أبى، فإن كان ممَّا لا يستحقُّه أن لا يبسط اليد إليه، فلا يجبر على أخذه(33)، وكأنَّما(34) أشهد عمر على إبائة حكيم لأنَّه خشي سوء التَّأويل عليه(35)، فأراد أن يبرئ ساحته بالإشهاد عليه.
          وفيه: أنَّه لا يستحقُّ أخذ شيء من بيت المال إلَّا بعد أن يعطيه الإمام إيَّاه، وأمَّا قبل ذلك فليس ذلك مستحقٌّ له، ولو كان ذلك مستحقًّا لقضي على حكيم بأخذه، و على ذلك يدلُّ نصُّ القرآن قال تعالى حين ذكر قسم الصَّدقات وفي أيِّ الأصناف تقسم: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7]، فإنَّما هو لمن أوتيه لا لغيره، وإنَّما قال العلماء في أسباب الحقوق في بيت المال تشدُّدًا على غير المَرْضِيِّ من السَّلاطين ليغلقوا باب الامتداد منهم إلى أموال المسلمين والتَّسبُّب إليها بالباطل، ويدلُّ على ذلك فتيا مالك فيمن سرق من بيت المال أنَّه يُقطع، ومن ربَّ الجارية من الفيء أنَّه يحدُّ، ولو استحقَّ في بيت المال أو في الفيء شيئًا على الحقيقة قبل إعطاء السُّلطان له ذلك لكانت شبهة يدرأ عنه الحدُّ بها، وجمهور الأمَّة على أنْ للمسلمين حقٌّ في بيت المال والفيء ويقسمه الإمام على اجتهاده، وسيأتي ذلك في كتاب الجهاد إن شاء الله(36). [خ¦30125]


[1] قوله: ((أبو سعيد الخدري)) ليس في (م).
[2] في (م): ((أبو هريرة قال النبي صلعم)).
[3] زاد في (م): ((بن حزام)).
[4] في (م): ((صلعم فأعطاني ثلاثًا)).
[5] قوله: ((قال حكيم)) ليس في (م).
[6] قوله: ((شيئًا)) ليس في (ص).
[7] في (م): ((للعطاء)).
[8] في (ص): ((أن يعطيه)).
[9] قوله: ((أن يقبل منه شيئًا)) ليس في (م).
[10] في (م): ((قال)).
[11] زاد في (م): ((إني)).
[12] في (م): ((فأبى)).
[13] قوله: ((وفيه: حجة لمن يعطي الفقير...... سهام الصدقات)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[14] في (م): ((وقياسه)).
[15] في (م): ((قبضه)).
[16] زاد في (م): ((من)).
[17] قوله: ((والسخاء)) ليس في (م).
[18] في (م): ((إلى السائل)).
[19] في (م): ((قال الله تعالى)).
[20] في (م): ((الإنسان)).
[21] في (م): ((الناس وكلا)).
[22] في (م): ((رده)).
[23] في (م): ((قال ◙)).
[24] في (م): ((وفي)).
[25] زاد في (م): ((من الفقه)).
[26] في (م): ((كما فعل النبي ◙ بالأنصار وبحكيم حين ألحفوا في مسألته مرة [زاد في (م): ((من)).] بعد أخرى، كلما أعطاهم سألوه، فأنجح)).
[27] في (م): ((حرص حكيم)).
[28] في (م): ((ولم)).
[29] في (ز): ((يسأله)) والمثبت من (م) وفي (ص) كالمثبت في المتن.
[30] في (ص): ((السفلى)).
[31] في (م): ((حق عند أحد)).
[32] زاد في (م): ((لا)).
[33] قوله: ((إذا أبى، فإن كان مما لا يستحقه أن لا يبسط اليد إليه، فلا يجبر على أخذه)) ليس في (م)، و فيها بدلها: ((خلاف قول مالك)).
[34] في (م): ((وإنما)).
[35] قوله: ((عليه)) ليس في (ص).
[36] قوله: ((وفيه: أنه لا يستحق أخذ شيء من بيت....... في كتاب الجهاد إن شاء الله)) ليس في (م).