شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إثم مانع الزكاة

          ░3▒ بَابُ: إثم مَانِع الزَّكاة.
          وَقَوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إلى قوله: {فذُوقُواْ(1) مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}[التوبة:34-35].
          وفيه(2): أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (تَأْتِي الإبِلُ على صَاحِبِهَا على خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ(3) بِأَخْفَافِهَا، وَتَأْتِي الْغَنَمُ على صَاحِبِهَا على خَيْرِ مَا كَانَتْ إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ(4) بِأَظْلافِهَا وَتَنْطَحُهُ(5) بِقُرُونِهَا، قَالَ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ على الْمَاءِ، قَالَ: وَلا يَأْتِي أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا على رَقَبَتِهِ لَهَا ثُغَاءٌ، وتقُولُ(6): يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلا يَأْتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ على رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ)(7). [خ¦1402]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ(8) صلعم: (مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ(9) يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ _يعني: بِشِدْقَيْهِ(10)_ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلا(11): {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}الآية[آل عِمْرَان:180]). [خ¦1403]
          قال المؤلِّف(12): تأوَّلَ العلماءُ أنَّ قوله: {وَالَّذِينَ(13) يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}الآية[التوبة:34]، وعيدٌ لمن منع الزَّكاة، ومن أدَّى زكاة ماله فليس بداخلٍ في هذه الآية.
          قال(14) المُهَلَّب: في هذه الآية فرض زكاة الذَّهب، ولم يُنقل عن النَّبيِّ ◙ فرض زكاة الذَّهب من طريق الخبر كما نُقل عنه زكاة الفضَّة، وهو قوله: ((في الرِّقَةِ رُبعُ العُشرِ، وليسَ فِيما دُونَ خَمسِ أَواقٍ مِنَ الوَرِقِ صَدَقةٌ))، إلَّا أنَّ قوله ◙: (مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَم يُؤدِّ زَكَاتَهُ) يدخل في عمومه الذَّهب(15) والفضَّة بالدَّليل، وإنَّما لم تُروَ زكاة الذَّهب(16) من طريق النصِّ عن النَّبيِّ ◙ _والله أعلم_ لكثرة الدَّراهم بأيديهم، وبها(17) كان تجارتهم(18)، ولقلَّة الذَّهب عندهم، وكان صرف الدِّينار حينئذٍ عشرة دراهم، فعدل المسلمون بخمسِ أواقٍ من الفضَّة عشرين مثقالًا، وجعلوه نصاب زكاة الذَّهب(19) وتواتر العمل به وعليه جماعة العلماء(20) أنَّ الذَّهب إذا كانت عشرين مثقالًا وقيمتها مائتا درهمٍ فيها نصف(21) دينارٍ، إلَّا ما اختُلِف فيه عن الحسن أنَّه قال(22): ليس فيما دون أربعين دينارًا زكاةٌ(23)، وهو شذوذٌ لا يُلتفت إليه.
          وذهبت طائفةٌ إلى أنَّ(24) الذَّهب إذا بلغت قيمتها مائتي درهمٍ ففيها(25) زكاةٌ، وإن كان أقلَّ من عشرين مثقالًا، وهذا(26) قول عطاء وطاوس والزُّهريِّ.
          واختلفوا في تأويل قوله ◙(27): (مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ على الْمَاءِ) فذهبت طائفةٌ إلى أنَّ في المال حقًّا سوى الزَّكاة. وقال أبو هريرة: حقُّ المال(28) أنْ ينحر السَّمينة، ويمنح الغزيرة، ويقعد الظَّهر، ويضرب الفحل، ويسقى اللَّبن، وتأوَّلوا في قوله تعالى: {والذينَ فِي(29) أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ. لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:24-25]، فقالوا: مثل(30) فكِّ العاني، وإطعامِ الجائعِ الَّذي يخاف ذهاب نفسه، والمواساة في المسغبة والعسرة. وهو قول الحسن البصريِّ والشَّعبيِّ(31) وطاوس، وتأوَّل مسروق في قوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[آل عِمْرَان:180]قال: هو الرَّجل يرزقه الله المال، فيمنع قرابته صلته، فيُجعل حيَّة طوِّقها(32)، وأكثر العلماء على أنَّ ذلك كلَّه في الزَّكاة المفروضة، ولا حقَّ عندهم في المال سوى الزَّكاة، وتأوَّلوا قوله ◙: (مِنْ(33) حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ على الْمَاءِ)، أنَّ ذلك حقُّ في كرم المواساة وشريف الأخلاق لا أنَّ ذلك فرضٌ، والحجَّة لهم قوله ◙: ((مَنْ كَانَ لَهُ مالٌ فَلَم يُؤدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ)) والزَّكاة لا يفهم منها إلَّا زكاة الفرض، وقد بيَّن الرَّسول(34) صلعم قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[آل عِمْرَان:180]أنَّه جاء(35) في مانعِ الزَّكاةِ، / وفي هذا الحديث خلاف تأويل مسروق، وقد انتزع ابن مسعود بهذه الآية في مانع الزَّكاة(36) أيضًا.
          قال إسماعيل بن إسحاق: الحقُّ المفترض هو الموصوفُ المحدودُ، وقد تحدثُ أمورٌ لا تُحدُّ ولا يُحدُّ لها(37) فتجب بها المواساة للضَّرورة الَّتي تنزلُ من ضيفٍ مضطرٍ، أو جائعٍ يعلمُ أنَّه مضطرٌ، أو غازٍ مضطرٍ(38) أو ميِّتٍ ليس له من يواريه فيجبُ حينئذٍ على من يمكنه المواساة الَّتي يزول بها حدُّ(39) الضَّرورة.
          والشُّجاع: الحيَّة الَّذي(40) يقوم على ذنبِه، وربَّما بلغ رأس الفارس، والزَّبيبتان نقطتان منتفختان في شدقيه كالرَّغوة، يُقال: إنَّهما يبرزان(41) حين يهيج ويغضب. وقيل: إنَّهما(42) نقطتان سوداوان على عينيه(43)، وهي علامة(44) الذَّكر المؤذي. وقيل: الأقرعُ الَّذي ابيَضَّ رأسه من كثرة السُّمِّ.
          قوله: (لَهُ يَعَارٌ)(45) قال صاحب «الأفعال»(46): اليعارُ صوتُ المعزى، وقد يَعَرَت تَيْعَر، واليَعْر الجَديُ، واليعور الشَّاة التي تبول على حالبها وتَبْعَرُ فيفسد اللَّبن. وثغت الشَّاة تثغو ثُغاءٌ، ورَغا البعيرُ رُغاءً صاح.


[1] في (ز) و(ص): ((ذوقوا)). وفي (م): ((والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله. الآية)).
[2] في (م): ((فيه)).
[3] في (م): ((إذا لم يعط فيها حقها تطأ)).
[4] في (م): ((على خير ما كانت تطأ)).
[5] في (م): ((وتنطحك)).
[6] في (م): ((لها رغاء فيقول)).
[7] قوله: ((وَلا يَأْتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ...... قَدْ بَلَّغْتُ)) ليس في (م).
[8] في (م): ((أبو هريرة قال النبي صلعم)).
[9] قوله: ((ثم)) ليس في (م).
[10] في (م): ((شدقيه)).
[11] زاد في (م): ((النبي)).
[12] قوله: ((قال المؤلف)) ليس في (م).
[13] في (م): ((الذين)).
[14] في (م): ((وقال)).
[15] في (م): ((يدخل فيه الذهب)).
[16] في (م): ((الزكاة في الذهب)).
[17] في (م): ((وأن بها)).
[18] في (م): ((تجرهم)).
[19] في (ص): ((نصاب الزكاة))، قوله: ((الذهب)) ليس في (ص).
[20] في (م): ((به، وأجمع العلماء)).
[21] في (م): ((درهم أن فيها الزكاة نصف)).
[22] قوله: ((قال)) زيادة من (م)، قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[23] في (م): ((صدقة)).
[24] في (م): ((وقالت طائفة: إن)).
[25] في (م): ((ففيه)). وبعدها في (م): ((ربع العشر)). وأشار في حاشية (ز) و(ص): ((نسخة: ربع العشر))
[26] في (ص): ((هذا)).
[27] زاد في (م): ((في الإبل: و)).
[28] في (م): ((الإبل)). وفي حاشية (ز) و(ص): ((نسخة: الإبل))،
[29] في النسخ: ((وفي)).
[30] في (م): ((قالوا منها)).
[31] زاد في (م): ((وعطاء)).
[32] في (م) و(ص): ((تطوقها)).
[33] في (م): ((ومن)).
[34] في (م): ((النبي)).
[35] في (م): ((ما بخلوا به، جاء)).
[36] قوله: ((وفي هذا الحديث خلاف تأويل........ مانع الزكاة)) جاء في (م) بعد قوله الآتي: ((يعلم أنه مضطر)).
[37] زاد في (م): ((وقت)).
[38] في (م): ((مثله)).
[39] في (ز) و(ص): ((حق)) والمثبت من (م).
[40] في (ز) و(ص): ((التي)) والمثبت من (م).
[41] في (م): ((يبدوان)).
[42] في (م): ((وقيل هما)).
[43] في (م) صورتها: ((عنقه)).
[44] زاد في (م): ((الحية)).
[45] قوله: ((وقوله: له يعار)) زيادة من (م) وبعدها في (ز): ((وقال)) والمثبت من (م)، قوله: ((وقوله: له يعار)) ليس في (ص).
[46] في (م): ((العين)).