شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما أدى زكاته فليس بكنز

          ░4▒ بَابُ: ما أدِّي زكاته فليسَ بكنزِ.
          لِقَوْلِ الرَّسول(1): (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ).
          فيه: ابْنُ عُمَرَ أنَّه قَالَ له أَعْرَابِيٌّ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}[التوبة:34]قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا(2) فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نزَلَتْ جَعَلَهَا اللهُ(3) طُهْرًا لِلأمْوَالِ. [خ¦1404]
          وفيه أَبُو سَعِيدٍ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ(4) أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ). [خ¦1405]
          وفيه زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، قال: مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا أَنَا بأبي ذَرٍّ، فَقُلْتُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ في هذِهِ الآيةِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ}[التوبة:34]قَالَ(5) مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ في أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُلْتُ(6): نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ في ذَلكَ، فَكَتَبَ إلى عُثْمَانَ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ: أَنِ اقْدَمِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَلكَ لِعُثْمَانَ، قَالَ(7): إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، فَذَاكَ أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا سَمِعْتُ(8) وَأَطَعْتُ. [خ¦1406]
          وفيه الأحنفُ(9) قَالَ: جَلَسْتُ إلى ملأٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ(10) الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ، حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِمْ(11) في نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ على حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، فيَتَزَلْزَلُ، ثُمَّ وَلَّى، فَجَلَسَ إلى سَارِيَةٍ، وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَلا أَدْرِي مَنْ هُوَ، قُلْتُ: لا أُرَى الْقَوْمَ إِلا قَدْ كَرِهُوا مَقَالَتَكَ، قَالَ: إِنَّهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، قَالَ لي خَلِيلِي رَسُولُ الله صلعم: (يَا أَبَا ذَرٍّ، تُبْصِرُ(12) أُحُدًا؟) قَالَ(13): فَنَظَرْتُ إلى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ، وَأَنَا أُرَى أَنَّ النَّبيَّ ◙ يُرْسِلُنِي في حَاجَةٍ، قُلْتُ: بقيَ(14)، قَالَ: (مَا أُحِبُّ أَنَّ لي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلا ثَلاثَةَ دَنَانِيرَ)، وَإِنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْقِلُونَ إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا(15)، لا وَاللهِ لا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللهَ. [خ¦1407] [خ¦1408]
          قال الطَّبريُّ: الكنزُ في كلامِ العربِ كلُّ شيءٍ مجموعٌ بعضه إلى بعض في بطنِ الأرضِ كان أو على ظهرها، ولذلك تقول العربُ(16) للشَّيء المجتمع: مكتنزٌ لانضمام بعضه إلى بعض، ومنه قول الهُذليِّ:
لا درَّ درِّي إنْ أَطعَمتُ نازِلَكُم فَرْقَ(17)                      الحَتِيِّ، وعِندِي البرُّ مَكنوزُ
          الحتيُّ: سويق المُقلِّ. واختلف السَّلف في معنى الكنز، فقال بعضهم: هو كلُّ مالٍ وجَبتْ فيه الزَّكاةُ فلم تؤدَّ زكاته، وقالوا: معنى قوله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ}[التوبة:34]لا يؤدُّون زكاتها، وهذا قول عمر وابن عمر وابن عبَّاس وعُبيد بن عمير، وجماعةٌ.
          وقال آخرون: الكنزُ ما زادَ على أربعةِ آلافِ درهمٍ فهو كنزٌ، وإن أُدِّيت زكاته. رواه جعدة بن هُبَيْرة عن عليِّ بن أبي طالب قال: أربعة آلافٍ فما دونها نفقة وما(18) كان أكثر من ذلك فهو كنزٌ، وقال غيره(19): الكنزُ ما فضل عن حاجة صاحبه إليه. وهذا مذهب أبي ذرٍّ. رُوي أنَّ نصل سيف أبي هريرة كان من فضَّة فنهاه عنه أبو ذرٍّ، قال(20): إنَّ رسول الله صلعم، قال: ((مَنْ تَركَ / صَفرَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ كُوِيَ بِهَا)).
          اتَّفق(21) أئمَّة الفتوى على قولِ عُمر وابن عمر وابن عبَّاسٍ، واحتجَّ له الطَّبريُّ بنحو ما نزع له(22) البخاريُّ، فقال: الدَّليل على(23) أنَّ كلَّ ما أدِّيت زكاته فليس بكنزٍ إيجاب الله تعالى على لسانِ رسولِه في كلِّ(24) خمس أواق ربع عشْرِها، فإذا كان ذلك فرض الله تعالى على لسان رسوله(25)، فمعلومٌ أنَّ الكثيرَ من(26) المال وإن بلغ ألوفًا إذا أُدِّيت زكاته فليس بكنزٍ، ولا يحرم على صاحبِه اكتنازه لأنَّه لم يتوعَّد الله عليه بالعقاب، وإنَّما توعَّد الله بالعقاب على كلِّ مالٍ(27) لم تؤدَّ(28) زكاته، وليس في القرآن بيان كم ذلك القدر من الذَّهب والفضَّة الَّذي(29) إذا جُمع بعضه إلى بعض استحقَّ جامعة الوعيد، فكان معلومًا أنَّ بيان ذلك إنَّما يؤخذ من وقف(30) رسول الله صلعم، وهو ما بيَّناه أنَّه(31) المال الَّذي لم يؤدَّ حقُّ الله منه من الزَّكاة دون غيره من المالِ.
          قال غيره: وإنَّما كتبَ معاويةَ إلى عثمانٍ يشكو أبا(32) ذرٍّ لأنَّه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له، وكان وقع في جيشه تشتيت(33) من ميل بعضهم(34) إلى قول أبي ذرٍّ، فلذلك أقدمه(35) عثمان إلى المدينة إذ خشي الفتنة في الشَّام ببقائه لأنَّه كان رجلًا شديدًا لا يخاف في الله(36) لومة لائم.
          قال المُهَلَّب(37): وكان هذا توقيرًا من معاوية لأبي ذرٍّ حين(38) كتب إلى السُّلطان الأعلى يستجلبه، وصَانَه مُعاوية من أن يخرِجُه فتكون عليه وصمةٌ(39).
          وقد ذكر الطَّبريُّ: أنَّه حين كثر النَّاس عليه بالمدينة يسألونه(40) عن سَببِ خروجه من الشَّام، خشي عثمانُ من التَّشتُّت(41) بالمدينة ما خشِيَه(42) معاوية بالشَّام، فقال له: تنحَّ قريبًا. قال له(43): إنِّي والله لن أدع ما كنت أقوله فسار إلى الرَّبَذة، وبينها وبين المدينة ثلاثة أيَّام(44).
          ففي(45) هذا من الفقه: أنَّه جائز للإنسان الأخذَ بالشِّدَّة في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وإن أدَّى ذلك إلى فراق وطنه. وفيه: أنَّه جائز للإمام أن يُخرج مَن توقَّع(46) ببقائه وقوع فتنة بين النَّاس. وفيه: ترك الخروج على الأئمَّة، والانقياد لهم، وإن كان الصَّواب في خلافهم.
          وفيه: جواز الاختلاف والاجتهاد في الآراء، ألا ترى أنَّ عثمان ومن كان بحضرته من الصَّحابة لم يردُّوا أبا ذرٍّ عن مذهبه، ولا قالوا له: إنَّه لا يجوز لك اعتقاد قولك، لأنَّ أبا ذرٍّ نزع بحديث النَّبيِّ ◙ واستشهد به، وذلك قوله ◙: (مَا أُحِبُ أنَّ(47) لِي مثلَ أُحُدٍ ذهبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلَّا ثَلاثةَ دَنَانِيرٍ)، وكذلك حين أنكر على أبي هريرة نصل سيفه استشهد على ذلك بقوله ◙: ((مَنْ تَرَكَ صَفرَاءَ أَو بَيضَاءَ كُوِيَ بِها)). وهذا حجَّة في أنَّ الاختلاف في العلم باق إلى يوم القيامة، لا يرتفع إلَّا بإجماعٍ.
          وقد روى ابن أبي شيبة عن(48) محمَّد بن بشر(49) حدَّثنا سفيان، عن المغيرة بن النُّعمان، عن عبد الله بن الأقنع الباهليِّ، عن الأحنف بن قيس قال: كنت جالسًا في مسجد المدينة فأقبل رجل لا تراه حلقة إلَّا فرُّوا منه، حتَّى انتهى إلى الحلقة الَّتي كنتُ فيها، فثبتُّ وفرُّوا، فقلت: على(50) ما يفرُّ النَّاس منك؟ قال: إنِّي أنهاهم عن الكنوز، قلت: إنَّ أعطياتنا قد ارتفعت وكثرت فتخاف علينا منها؟ قال: أمَّا اليوم فلا، ولكنَّها توشك أن تكون أثمان دِينكم، فدعوهم وإيَّاها.
          وقال(51) المُهَلَّب: في قوله(52): (بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ) وجوب(53) مبادرة إخراج الزَّكاة عند حولها(54) والتَّحذير من تأخيرها.
          وقوله: (فَنَظَرْتُ إلى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ) فهو(55) لتعجيل الزَّكاة، يقول(56) ما أحبُّ أن أحبس ما أوجبه الله(57) بقدر ما بقي من النَّهار. والرَّضف الحجارة المحماة. والنُّغض الغرضوف من الكتف.
          الخطَّابيُّ: نُغض الكتف فرعه(58)، وسُمِّي نُغضًا لأنَّه ينغض من الإنسان إذا أسرع، أي يتحرَّك. ومنه يُقال: نغض(59) الرَّجل رأسه، إذا حرَّكه. ومنه قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ(60) إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ}[الإسراء:51].


[1] في (م): ((النبي صلعم)).
[2] في (م): ((زكاتهما)).
[3] قوله: ((الله)) ليس في (م).
[4] في (م): ((خمسة)).
[5] في (م): ((الذين يكنزون الذهب والفضة، فقال)).
[6] في (م): ((وقلت)).
[7] في (م): ((فقال)).
[8] في (م): ((لسمعت)).
[9] قوله: ((وفيه الأحنف)) زيادة من (م)، قوله: ((وفيه الأحنف)) ليس في (ص).
[10] في (ز) و(ص): ((حسن)) والمثبت من (م).
[11] في (م): ((عليه)).
[12] في (م): ((أتبصر)).
[13] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[14] في (م): ((نعم)).
[15] في (م): ((للدنيا)).
[16] قوله: ((كل شيء مجموع بعضه...... تقول العرب)) ليس في (م). وفيها بعدها: ((الشيء)).
[17] في (م): ((قوت))، و في المطبوع: ((قِرْفَ)).
[18] في (م): ((فما)).
[19] في (م): ((آخرون)).
[20] في (م): ((وقال)).
[21] في (م): ((واتفق)).
[22] في (م): ((به)).
[23] قوله: ((على)) ليس في (ص).
[24] قوله: ((كل)) ليس في (م).
[25] قوله: ((تعالى على لسان نبيه)) ليس في (م).
[26] في (ز): ((هو)) والمثبت من (م)، وفي (ص): ((الكنز هو المال)).
[27] في (م): ((ما)).
[28] في (ص): ((على مال لم يؤدِّ)).
[29] قوله: ((الذي)) زيادة من (م)، قوله: ((الذي)) ليس في (ص).
[30] في (م): ((يؤخذ بوقف)).
[31] في (م): ((وهو)).
[32] في (م): ((بأبي)).
[33] في (م) و(ص): ((تشتت)).
[34] قوله: ((بعضهم)) ليس في (ص).
[35] في (ز) و(ص): ((قدمه)) والمثبت من (م).
[36] في (م): ((شديدًا في الله لا يخاف فيه)).
[37] قوله: ((قال المهلب)) ليس في (م).
[38] قوله: ((حين)) زيادة من (م)، قوله: ((حين)) ليس في (ص).
[39] زاد في (م): ((قاله المهلب)).
[40] في (ز): ((ليسألونه)) والمثبت من (م)، وفي (ص): كالمثبت في المتن.
[41] في (ز): ((التشبث))، والمثبت من (م)، وفي (ص): كالمثبت في المتن.
[42] في (م): ((خشي)).
[43] في (م): ((فقال)).
[44] قوله: ((فسار إلى الرَّبذة، وبينها وبين المدينة ثلاثة أيام)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[45] في (م): ((وفي)).
[46] في (م): ((يتوقع)).
[47] قوله: ((أن)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[48] في (م): ((حدثنا)).
[49] في (ز) و(ص): ((بشير)) والمثبت من (م).
[50] قوله: ((على)) ليس في (م).
[51] في (م): ((قال)).
[52] زاد في (م): ((وفي قوله له)).
[53] قوله: ((وجوب)) ليس في (م).
[54] في (م): ((محلها)).
[55] زاد في (م): ((مثل)).
[56] في (م): ((يريد)).
[57] زاد في (م): ((وحل وقته)).
[58] في (ز) و(ص): ((نزعه)) والمثبت من (م).
[59] في (م): ((أنغض)).
[60] في (ز) و(ص): ((ينغضون)).