شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى

          ░18▒ باب: لا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى(1). /
          وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ أَوْ أَهْلُهُ محاويجٌ، أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنَ الصَّدَقَة وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ(2) أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ.
          قَالَ رسولُ الله(3) صلعم: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ)، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ على نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ، كَفِعْلِ أبي بَكْرٍ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ آثَرَ الأنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ. وَنَهَى رسولُ الله(4) صلعم عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ كَعْب: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً للهِ(5) تعالى وَإِلَى رَسُولهِ قَالَ: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذي بِخَيْبَرَ(6).
          وفيه(7): أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبيُّ ◙: (خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ). [خ¦1426]
          وفيه: حَكِيمٌ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ(8)، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ). وَالْيَدُ الْعُلْيَا(9) الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ. [خ¦1427] [خ¦1428]
          قال بعض أهل العلم: في(10) قوله ◙: (خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) دليلٌ على أنَّ النَّفقة على الأهل أفضل من الصَّدقة لأنَّ الصَّدقة تطوُّعٌ، والنَّفقة على الأهل فريضة.
          وقوله: (لا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى) أي لا صدقة إلَّا بعد إحراز قوته وقوت أهله لأنَّ الابتداء بالفرائض قبل النَّوافل أولى، وليس لأحدٍ إتلاف نفسِه وإتلاف أهله بإحياء غيره، وإنَّما عليه إحياء غيره بعد إحياء نفسه(11) وأهله، إذ حقُّ نفسه وحقُّ أهله أوجبُ عليه من حقِّ سائر النَّاس، ولذلك قال: (وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)، وقال لكعبٍ: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ).
          قال الطَّبريُّ: فإن قيل: هذا المعنى يعارض(12) فعل أبي بكرٍ الصِّدِّيق ☺ حين تصدَّق بماله كلِّه وأمضاه النَّبيُّ ◙. قيل: قد اختلف العلماء فيمن تصدَّق بماله كلِّه في صحَّة بدنه وعقله، فقالت طائفةٌ: ذلك جائزٌ إذا كان(13) في صحَّته. واعتلُّوا(14) بخبر أبي بكرٍ حين تصدَّق بماله كلِّه، وأنَّ النَّبيَّ صلعم قَبِلَ ذلك ولم ينكره ولا رَدَّهُ، وهو قولُ مالك والكوفيِّين والشَّافعيِّ والجمهور.
          وقال آخرون: ذلك كلُّه مردودٌ، ولا(15) يجوزُ شيءٌ منه. رُوي ذلك عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه ردَّ على غَيلانَ بن سلمة نساءَه، وكان طلقهنَّ وقسم(16) ماله على(17) بنيه، فَرَدَّ عمر ذلك كلَّه.
          وقال آخرون: الجائز من ذلك الثُّلثُ، ويُردُّ الثُّلثان واعتلُّوا(18) بحديثِ كعب بن مالكٍ، وأنَّ النَّبيَّ صلعم رَدَّ صدقته إلى الثُّلثِ. هذا قول مكحول والأوزاعيِّ.
          وقال آخرون: كلُّ عطيَّة تزيد على النِّصف تُردُّ إلى النِّصف. رُوي ذلك عن مكحول.
          قال الطَّبريُّ: والصَّوابُ في ذلك عندنا(19) أنَّ صدقة المتصدِّق بماله كلِّه في صحَّة بدنه وعقله جائزة لإجازة النَّبيِّ ◙ صدقة أبي بكر بماله كلِّه، وإن كنت لا أرى أن(20) يتصدَّق بماله كلِّه، ولا يجحفُ بماله ولا بعياله، وأن يستعملَ في ذلك أدب الله تعالى لنبيِّه ◙ بقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}[الإسراء:29]وأن يجعل من ذلك الثُّلثَ كما أمر الرَّسولُ ◙ لكعب بن مالك وأبي لُبَابة(21). وأمَّا إجازته لأبي بكرٍ الصِّدِّيق ☺ الصدَّقةَ بماله كلِّه فهو إعلام منه أمَّتَه أنَّ ذلك جائزٌ غير مذمومٍ(22)، وردُّه على كعب وأبي لبابة ما رَدَّ، وأمرهُ لهما بإخراج الثُّلث إعلامٌ منه بموضع الاستحباب والاختيار، لا حَظْرًا منه للصَّدقة(23) بجميع المال، والدَّليل على ذلك إجماع الجميع على أنَّ لكلِّ مالك مالًا إنفاق جميعه في حاجاته، وصرفه فيما لا يحرم عليه من شهواته، فمثله إنفاق جميعه فيما فيه القربة إلى الله إذ إنفاقه في ذلك أولَى من إنفاقه في شهواته ولذَّاته(24).
          قال غيره: وأمَّا قوله(25): (وأمَّا وَمَنْ(26) تَصَدَّقَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالعِتْقِ وَالهِبَةِ وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ). فهو إجماع من العلماء لا خلاف بينهم فيه.
          وقوله: (إِلا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ على نَفْسِهِ) فإنَّما يرجع هذا الاستثناء إلى قوله: (مَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ). ولا يرجع إلى قوله: (أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ)، للإجماع الَّذي ذكرنا، ومن بلغ منزلة الإيثار على نفسه وعلم أنَّه يصبر على الفقرِ ويصبر أهله عليه فمباح له أن يؤثر على نفسه، ولو كان / بهم خصاصة، وجائزٌ له أن يتصدَّق وهو محتاج، ويأخذ بالشِّدَّة كما فعل الأنصار بالمهاجرين، وكما فعل أبو بكرٍ الصِّدِّيق ☺، وإن عَرَفَ أنَّه لا طاقة له ولا لأهله بمقارعة(27) الفقر والحاجة فإمساكه لماله(28) أفضل لقوله صلعم(29): (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)، وقوله: (وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)، وقد روى عَبَّاد بن العوَّام عن عبد الملك بن عمير عن عطاء عن أبي هريرة عن النَّبيِّ ◙ قال(30): ((لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى)) على(31) لفظ التَّرجمة وهو معنى(32) قوله: (خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى).
          وقوله: (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ(33) السُّفْلَى) فيه ندبٌ إلى التَّعفف عن المسألة، وحضٌّ على معالي الأمور وترك(34) دنيئها، والله يحبُّ معالي الأمور، وفيه حضٌّ على الصَّدقة أيضًا لأنَّ العليا يد المتصدِّق، والسُّفلى يد السائل، والمعطِي مفضَّل على المعطَى، والمفضَّل خير من المفضَّل عليه، ولم يُرِدْ ◙ أنَّ المفضَّل في الدُّنيا خير في الدِّين وإنَّما أراد(35) في الإفضال والإعطاء.
          قال الخطَّابي: وتفسيره في هذا(36) الحديث: (الْيَدُ العُلْيَا المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ) تفسيرٌ حسنٌ، وفيه وجهٌ آخر أشبه بمعنى الحديثِ، وهو أن تكون العليا هي(37) المتعفِّفة، وقد رُوي ذلك مرفوعًا: حدَّثونا(38) عن عليِّ بن عبد العزيز،(39) حدَّثنا عارم، حدَّثنا حمَّاد بن زيد، عن أيُّوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعتُ النَّبيَّ(40) صلعم يخطبُ يقولُ(41): ((اليَدُ العُليَا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى، اليَدُ العُليَا المُنفِقَةُ(42))). ورواه ابن المبارك، عن موسى بن(43) عقبة، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله: ((اليَدُ العُليَا المُنفِقَةُ، واليَدُ السُّفلَى السَّائِلَةُ)). قال أبو داود: ورواه عبد الوارث عن أيُّوب عن نافع عن ابن عمر مثله، ويؤكِّد هذا ما روى عبد الرَّزَّاق، عن معمر، عن الزُّهريِّ، و(44) عروة، وسعيد بن المسيِّب: ((أنَّ النَّبيَّ ◙ أَعطَى لِحَكِيمِ(45) بنِ حِزامٍ دونَ ما أَعطَى أَصحَابَهُ))، فقال حكيمٌ: ما كنت أظنَّ رسول الله يقصر بي دون الحدِّ(46). فزاده حتَّى رضي، فقال النَّبيُّ ◙: ((اليَدُ العُليَا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى))، قال: ومنك يا رسول الله؟ قال: ((ومِنِّي))، قال: والَّذي بعثكَ بالحقِّ لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا، فلم يقبل عطاء ولا(47) ديوانًا حتَّى مات.
          قال أبو سليمان(48): فلو كانت اليد العليا المعطية لكان حكيم قد توهَّم أنَّ يدًا خير من يد رسول الله صلعم، لقوله: ومنك يا رسول الله، يريد أنَّ التعفُّف من مسألتك كهو من مسألة غيرك، فقال ◙: ((نعم))، فكان بعد ذلك لا يقبل العطاء من أحدٍ.
          ورُوي فيه وجهٌ ثالثٌ عن الحسن: العليا المعطِية والسُّفلى المانعة(49). قال المؤلِّف: وحديث عروة وسعيد مرسلٌ، والمسند أقطع في الحجَّة عند التَّنازع.


[1] قوله: ((وإعلانها، وفي غير ذلك من أموركم ذو خبرة وعلم..........باب: لا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى)) الورقة ليست في المخطوط (ص).
[2] في (م): ((عليه)).
[3] في (م): ((النبي)).
[4] في (م): ((النبي)).
[5] في (م): ((صدقة إلى الله)).
[6] قوله: ((بخيبر)) ليس في (م).
[7] في (م): ((فيه قال)).
[8] قوله: ((وفيه: حَكِيم قَالَ.... وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[9] في (م): ((يغنيه الله... والعليا)).
[10] قوله: ((قال بعض أهل العلم: في)) ليس في (م).
[11] في (م): ((غيره بغير إهلاك)).
[12] في (ص): ((يعارضه)).
[13] صورتها في (ز) و(ص): ((كانت)) والمثبت من (م).
[14] في (م): ((واحتجوا)).
[15] في (م): ((لا)).
[16] في (م): ((وكان قسم)).
[17] في (م): ((بين)).
[18] في (م): ((واحتجوا)).
[19] في (م): ((والصواب عندنا في ذلك)).
[20] في (م): ((وإن كنت أرى أن لا)).
[21] في (م): ((النبي ◙ كعب بن مالك وأبي لبابة)).
[22] في (م): ((مردود)).
[23] في (م): ((الصدقة)).
[24] في (ص): ((في لذاته وشهواته)).
[25] زاد في (ز): ((◙)) وهو وهم من الناسخ.
[26] في (ص): ((من)) بلا واو.
[27] في (م): ((بأهله على مقارعة)).
[28] في (ص): ((لأهله)).
[29] في (م): ((النبي صلعم)).
[30] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[31] قوله: ((على)) زيادة من (م).
[32] في (م): ((بمعنى)).
[33] قوله: ((اليد)) ليس في (م).
[34] في (م): ((وردِّ)).
[35] في (م): ((وإنما المراد خير)).
[36] قوله: ((هذا)) ليس في (م) و(ص).
[37] قوله: ((هي)) ليس في (م).
[38] في (م): ((حدثوا)).
[39] زاد في (ص): ((قال)).
[40] في (م): ((رسول الله)).
[41] قوله: ((يقول)) ليس في (م).
[42] في (م): ((المتعففة)).
[43] في (ز) و(ص): ((عن)) والمثبت من (م).
[44] في (م): ((عن)).
[45] في (م): ((حكيم)).
[46] في (م): ((أظن يا رسول الله أن تقصر بي دون أحد)).
[47] قوله: ((ولا)) ليس في (م).
[48] في (م): ((قال الخطابي)).
[49] في (م): ((الحسن قال: اليد العليا المعطية واليد السفل المانعة)).