شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {فأما من أعطى وأتقى}

          ░27▒ بَاب: قَوْله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} إلى {لِلْعُسْرَى}(1)[الليل:5-10]
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ(2) النَّبيُّ صلعم: (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ(3)، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا). [خ¦1442]
          قال المؤلِّف(4): معنى هذا الحديث الحضُّ على الإنفاق في الواجبات، كالنَّفقة على الأهل وصلة الرَّحم، ويدخل فيه صدقة التَّطوَّع والفرض(5)، ومعلوم أنَّ دعاء الملائكةِ مجابٌ بدليل قوله: ((مَنْ(6) وَافَقَ تَأمِينُهُ تَأمِينَ المَلَائِكَةِ / غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) ومصداق الحديث قوله تعالى(7): {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}(8)[سبأ:39]يعني ما أنفقتم في طاعة، وقوله ◙: ((ابْنَ آدَمَ، أَنْفِقْ أُنفِقْ عَلَيكَ)) واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقال ابن عبَّاس: قوله: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6]صدق بالخلف من الله تعالى. وقال الضَّحَّاك: صدَّق بلا إله إلَّا الله. ورُوي عن ابن عبَّاسٍ أيضًا. وقال مجاهد: صدَّق بالجنَّة. وقال قَتادة: صدَّق بموعود الله على نفسه، فعمل به.
          قال ابن الإدْفُويِّ: وأشبه الأقوال عندي قول من قال: وصدَّق بالخلف من الله تعالى لنفقته، يدلُّ على ذلك قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5]فكان أولى المعاني به أن يكون عقيبه الخبر بتصديقه بوعد(9) الله بالخلف، ويؤيِّد ما قلناه حديث أبي هريرة، وقول الملائكة: ((اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا، وأنزل الله تعالى(10) في القرآن {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى}(11) الآية[الليل:5]. وقال(12) ابن إسحاق: نزلت هذه الآية في أبي بكرٍ الصِّدِّيق، رُوي أنَّه اشترى تسعة كانوا في أيدي المشركين لله، فأنزل الله هذه الآية. ورُوي أنَّها نزلت في رجل ابتاع نخلة كانت على حائط أيتام، فكان يمنعهم أكل ما سقط منها، فابتاعها رجلٌ منه، وتصدَّق بها عليهم.
          وقوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7]يريد الحالة(13) اليسرى، وهي العمل بما يرضاه الله تعالى منه في الدنيا لوجب به(14) الجنَّة في الآخرةِ.
          وقالوا في قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9]وكذَّب بالخلف، عن ابن عبَّاسٍ، ورُوي عنه أيضًا: كذَّب(15) بلا إله إلا الله. وقال قَتادة: كذَّب(16) بموعود الله تعالى(17). وقال مجاهدٌ: {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} الجنَّة {فَسَنُيَسِّرُهُ(18) لِلْعُسْرَى} أي للعمل بالمعاصي. ودلَّت هذه الآية أنَّ الله تعالى الموفِّق للأعمال الحسنة والسَّيِّئة، كما قال ◙: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أمَّا أَهلُ السَّعادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعادَةِ، وأمَّا أهلَ الشَّقاءِ فَيُيَسَّرونَ لِعَمَلِ الشَّقاءِ(19)، ثمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى(20)} الآية[الليل:5-6])). وقال الضَّحَّاك: العسرى النَّار.
          فإن قيل: التَّيسير إنَّما يكون لليسر(21) فكيف جاء للعسرى؟ فالجواب أنَّه مثل قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[آل عِمْرَان:21](22) أنَّ ذلك يقوم لهم مقام البشارة. وأنشد سِيبويهْ:
تـَحِـيَّـةُ بَينِهِم ضربٌ(23) وجـيع
          وقال الفرَّاء: إذا اجتمع خيرٌ وشرٌّ، فوقع للخير تيسير، جاز أن يقع للشَّرِّ مثله.


[1] في (م): (({..واتقى وصدق بالحسنى} إلى قوله {للعسرى})).
[2] قوله: ((قال)) ليس في (م)، وفي (ص): ((قال قال ◙)).
[3] زاد في (م): ((فيه)).
[4] قوله: ((قال المؤلف)) ليس في (م).
[5] في (م): ((الفرض والتطوع)).
[6] في (م): ((فمن)).
[7] في (م): ((الحديث في قوله ╡)).
[8] زاد في (م): ((وهو خير الرازقين)).
[9] في (م): ((بوعده)).
[10] في (م): ((ذلك)).
[11] زاد في (م): ((وصدق بالحسنى)).
[12] زاد في (ص): ((محمد)).
[13] في (م): ((للحالة)).
[14] في (م): ((ليوجب له به)).
[15] في (م): ((وكذب)).
[16] في (م): ((وكذب)).
[17] زاد في (م): ((أن ييسره للعسرى)).
[18] قوله: ((فسنيسره)) ليس واضحا في (ز)، وفي (ص): ((أن نيسره)).
[19] في (م): ((الشقاوة)).
[20] زاد في (م): ((وصدق بالحسنى)).
[21] في (م): ((للحسنى)).
[22] زاد في (م): ((أي)).
[23] في (ز) و(ص): ((وضرب)) والمثبت من (م).