شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الزكاة على الأقارب

          ░44▒ باب: فَضلُ الزَّكَاةِ على الأقَارِبِ.
          وَقَالَ(1) صلعم: (لَهُ(2) أَجْرَانِ: الْقَرَابَةِ وَالصَّدَقَةِ).
          فيه: أَنَسٌ قال(3): كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ(4) صلعم يدخلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَيسٌ: فَلَمَّا نْزلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عِمْرَان:92]قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إلى رَسُولِ اللهِ(5) صلعم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِليَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ، فَقَالَ النَّبيُّ(6) صلعم: (بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ(7)، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأقْرَبِينَ)، قَالَ(8) أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ في أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. [خ¦1461]
          وفيه: أَبُو سَعِيدٍ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ(9) صلعم في أَضْحًى، أَوْ فِطْرٍ(10) إلى الْمُصَلَّى(11)، فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ(12)، فَلَمَّا صَارَ إلى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ(13)، فقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ(14) وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ(15)، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقتُ(16) بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ(17) صلعم: (صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقتِ(18) بِهِ عَلَيْهِمْ). [خ¦1462]
          قال المؤلِّف: من روى مال(19) رايح بالياء فمعناه يروح عليه أجره كلَّما أطعمت(20) الثِّمار،(21) قال الخطَّابيُّ: وقوله: رابح، أي ذو ربح، كقولك(22): ناصب، أي ذو نصب.
          قال النَّابغة(23):
كِلِيني لِهَمٍّ يَا أُمَيمَةَ(24) نَاصِبِ(25)
          والرَّايح: القريب المسافة الَّذي يروح خيره ولا يعزب نفعه.
          وقوله: (بَخٍ) كلمة إعجاب، وقد تُخفَّف وتُثقَّل، فإذا كرَّرتَ فالاختيار أن تُنوِّن الأوَّل وتُسكِّن الثَّاني، وهكذا هو في كلِّ كلام مثنى(26)، كقولهم: صهٍ صهْ، وطابٍ طابْ، ونحوهما(27)، وقال الأحمر: في بخٍ أربع لغاتٍ: الجزم والخفض والتَّشديد والتَّخفيف.
          وقوله: (وَإِنَّ(28) أَحَبَّ أَمْوَالِي إِليَّ(29) بَيْرُحَاءَ) فيه من الفقه حبُّ الرَّجل الصَّالح للمال، وقال(30) أبو بكرٍ لعائشة: ما أحد أحبُّ إليَّ غنًى منك، ولا أعزُّ عليَّ فقرًا منك. وفيه إباحة دخول أجنَّة الإخوان، والشُّرب من مائها(31) والأكل من ثمارها بغير إذنهم إذا علم أن أَنْفُسَ أصحابها تطيب بذلك، وكان ممَّا لا يتشاحُّ فيه.
          قال المُهَلَّب: وفيه أنَّ الصَّدقة إذا كانت جزلة أنَّ صاحبها يُمدح بها ويُغبط لقول النَّبيِّ(32): (بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رابِحٌ) فسلَّاه ◙ بما يناله من ربح الآخرة، وما عوَّضه الله فيها عمَّا عجَّله في الدُّنيا الفانية.
          وفيه: أنَّ ما فوَّته الرَّجل من حميم(33) ماله، وغبيط عقاره عن ورثته بالصَّدقة(34) أنَّه يستحبُّ له أن يردَّه إلى أقاربه غير الورثة، لئلَّا يفقد أهله نفع ما خوَّله الله ╡، وفي كتاب الله ما يؤيِّد هذا قال تعالى(35): {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}[النساء:8]فثبت بهذا المعنى أنَّ الصَّدقة على الأقارب وضعفاء الأهلين أفضل منها على سائر النَّاس إذا كانت صدقة تطوُّع، ودلَّ على ذلك حديث زينب امرأة ابن مسعودٍ.
          وقوله ◙ لها: (لَكَ أَجْرَان: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَقَةِ) وقال لميمونة حين أعتقت جارية لها: ((أَمَا إنَّكِ لَو أَعطَيتِها لَأَخوَالِكِ(36) / كَانَ أَعظَمَ لِأَجرِكِ))، واستعمل الفقهاء الصَّدقة(37) في غير الأقارب لئلَّا يصرفوها(38) في ما يجري بين الأهلين من الحقوق والصِّلات والمرافق لأنَّهم إذا جعلوا الصَّدقة الفريضة في هذا المعتاد بين الأهلين(39)، وكأنَّهم(40) لم يخرجوها من أموالهم إلَّا(41) لانتفاعهم بها وتوقير تلك الصِّلات بها، فإذا زال هذا المعنى جازت الزَّكاة للأقارب الَّذين لا تلزمهم نفقتهم(42).
          وقد تقدَّم اختلاف العلماء في الزَّكاة على الأقارب في باب إذا تصدَّق على ابنه وهو لا يشعر، فأغنى عن إعادته(43)، [خ¦1422] ولم يختلف العلماء أنَّ قوله: (في أَقَارِبِهِ وبَنِي عَمِّهِ) أنَّهم أقارب أبي طلحة لا أقارب النَّبيِّ ◙. وقد روى ذلك الثِّقات، حدَّثنا بعض مشايخنا، قال: حدَّثنا أبو عَمْرو الباجيُّ، قال: حدَّثنا أبي، قال: حدَّثنا محمَّد بن فُطَيس، حدَّثنا إبراهيم بن مرزوق، حدَّثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاريُّ، حدَّثنا أبي، حدَّثنا ثمامة بن عبد الله عن أنس أنَّه قال: كانت لأبي طلحة أرض فجعلها لله، فأتى النَّبيَّ ◙ فقال له: ((اجعَلْهَا فِي أَقَارِبِكَ))(44) فجعلها لحسَّان وأُبيِّ بن كعب، قال أنس: وكانا أقرب إليه منِّي.
          وفيه: استعمال عموم اللَّفظ، ألا ترى إلى(45) فهم الصَّحابة لذلك، وأنَّهم لم يتوقَّفوا حتَّى يتبيَّن لهم بآية أخرى أو بسنَّة مبيِّنة لمراد الله تعالى في الشَّيء الَّذي يجب أن ينفقه عباده لأنَّهم يحبُّون أشياء كثيرةً، فبدر كلُّ واحدٍ منهم إلى نفقة أحبِّ أمواله إليه، فتصدَّق(46) أبو طلحة بحائطه(47)، وكذلك فعل زيد بن حارثة، وروي عن(48) ابن عيينة عن ابن المُنكَدِر، قال: لمَّا نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عِمْرَان:92]، قال زيد: اللَّهُمَّ إنَّك تعلم أنَّه ليس(49) لي مال أحبُّ إليَّ من فرسي هذه، وكان له فرس فجاء به إلى النَّبيِّ صلعم فقال: هذا في سبيل الله. فقال لأسامة بن زيد: اقبضها منه، فكأنَّ زيدًا وجد في نفسه من ذلك، فقال رسول الله صلعم: ((إنَّ اللهَ قَدْ قَبِلَها مِنكَ)).
          وفعل مثل ذلك ابن عمر، رُوي أنَّه كانت له جاريةٌ جميلةٌ كان يحبُّها فأعتقها لهذه الآية، ثمَّ اتَّبعتها نفسه فأراد أن يتزوَّجها(50) فمنعه(51) بنوه، فكان بعد ذلك يقرِّب بنيها من غيره لمكانها من نفسه، روى(52) الثَّوريُّ أنَّ أمَّ ولد الرَّبيع بن خُثَيم(53)، قالت: كان إذا جاءنا السَّائل يقول لي(54): يا فلانة، أعط السَّائل سُكَّرًا فإنَّ الرَّبيع يحب السُّكَّر. قال سفيان: يتأوَّل(55) {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وفي هذا الحديث فقه من معاني الصَّدقات والهبات، سيأتي في موضعه(56) إن شاء الله.


[1] زاد في (م): ((النبي)).
[2] قوله: ((له)) ليس في (م).
[3] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[4] في (م): ((النبي)).
[5] في (م): ((النبي)).
[6] في (م): ((رسول الله)).
[7] زاد في (م): ((ذلك مال رابح)).
[8] في (م): ((فقال)).
[9] في (م): ((النبي)).
[10] قوله: ((في أضحى أو فطر)) ليس في (م).
[11] زاد في (م): ((ثم انصرف)).
[12] زاد في (م): ((الحديث)).
[13] فزاد ي (م): ((عليه)).
[14] في (م): ((بصدقة)).
[15] زاد في (م): ((لي)).
[16] في (ز): ((ممن تصدق)) والمثبت من (م).
[17] زاد في (م): ((النبي)).
[18] في (ز): ((ممن تصدق)) والمثبت من (م).
[19] قوله: ((مال)) ليس في (م).
[20] في (م): ((طعمت)).
[21] زاد في (م): ((ومن روى رابح بالباء، فمعناه: ذو ربح، وذلك أنَّ صاحبه وضعه موضح الربح يوم القيامة، و)).
[22] في (م): ((كقوله)).
[23] زاد في (م): ((الذبياني)).
[24] في (م): ((ميمة)).
[25] زاد في (م): ((وليل أقاسيه نظير الكواكب)).
[26] قوله: ((مثنى)) زيادة من (م).
[27] في (م): ((ونحوها)).
[28] في (م): ((كان)).
[29] في (م): ((أمواله إليه)).
[30] في (م): ((وقد قال)).
[31] في (م): ((مياهها)).
[32] في (م): ((أن صاحبها يغبط بها ويمدح عنده لقوله ◙)).
[33] في (م): ((صميم)).
[34] في (م): ((عقاره بالصدقة عن ورثته)).
[35] في (م): ((╡، ويؤيد هذا قوله ╡)).
[36] في (م): ((إخوانك))، قوله: ((قال ابن القصَّار........ أَعطَيتِها لَأَخوَالِكِ)) في (ص) الورقة ليست في المخطوط.
[37] زاد في (م): ((الفريضة)).
[38] في (ز) و(ص): ((يصرفونها)) والمثبت من (م).
[39] في (م): ((الأقارب)).
[40] في (م): ((فكأنهم)).
[41] قوله: ((إلا)) ليس في (م).
[42] في (م): ((لا تلزم نفقاتهم)).
[43] قوله: ((فأغنى عن إعادته)) ليس في (م). وبدله قوله: ((قال غيره)).
[44] قوله: ((وقد روى ذلك الثقات، حدثنا بعض.... اجعلها في أقاربك)) ليس في (م). وبدله قوله: ((وقد ذكر ذلك البخاري في كتاب الأوقاف في باب إذا وقف او أوصى لأقاربه، ومن الأقارب أن النبي ◙ قال لأبي طلحة: اجعلها لفقراء أقاربك)).
[45] قوله: ((إلى)) ليس في (م).
[46] في (م): ((أحب ماله فتصدق)).
[47] في (م): ((بحائط)).
[48] في (م): ((روى)).
[49] في (م): ((اللَّهُمَّ تعلم أن ليس))، وفي (ص): ((اللَّهُمَّ إنك تعلم أن ليس)).
[50] وأشار في حاشية (ص): في نسخة ((تزوجها)).
[51] في (م): ((فمنعوه)).
[52] في (م): ((وروى)).
[53] في (ص): ((خيثم)) لعله سبق قلم.
[54] قوله: ((لي)) ليس في (ص).
[55] قوله: ((يتأول)) ليس في (م).
[56] في (م): ((مواضعها)).