شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الصدقة على اليتامى

          ░47▒ بَابُ: الصَّدَقَةِ على الْيَتَامَى.
          فيه: أَبُو سَعِيدٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم، جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ على الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: إِنَّ مِمَّا(1) أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ النَّبيُّ صلعم، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبيَّ صلعم وَلا يُكَلِّمُكَ؟ فَرَأَيْنَا(2) أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، قَالَ(3): فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، وقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ(4)، فَقَالَ: إِنَّهُ لا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلا آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ _أَوْ كَمَا قَالَ النَّبيِّ ◙(5)_ وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ / كَالَّذي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). [خ¦1465]
          قال المُهَلَّب: احتجَّ قوم بهذا الحديث في تفضيل الفقر على الغنى، وليس كما تأوَّلوه، بل هو(6) حجَّةٌ عليهم لأنَّ النَّبيَّ صلعم لم يخش عليهم ما يُفتح عليهم من زهرة الدُّنيا إلَّا إذا ضيَّعوا ما أمرهم الله به من إنفاقه في حقِّه وإذا كسبوه من غير وجهه.
          وقوله(7) صلعم(8): (لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ) يعني المال إذا كُسب من وجهه وفُعل به(9) ما أمرهم(10) الله، ثمَّ ضرب لهم مثلًا بقوله: (وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أو يُلِمُّ) يعني أنَّ الاستكثار(11) من المال والخروج من(12) حدِّ الاقتصاد فيه ضارٌّ، كما أنَّ الاستكثار من المأكل مسقمٌ، ضرب هذا مثلًا للحريص على جمع المال المانع(13) له من حقِّه، والرَّبيع تنبت فيه أحرار العشب(14) الَّتي تحلو لها الماشية فتستكثر منها حتَّى تنتفخ بطونها فتهلك.
          وقوله(15): (أَوْ يُلِمُّ) يعني يقرب من الهلاك، يُقال: ألمَّ الشَّيء قرب، و(الرُّحَضَاءَ): عرق الحمَّى، وقد رَحَضَ ورَحَضت الثَّوب(16) غسلته.
          وقوله(17): (إلَّا آكِلَةَ الخَضرِ) يعني التي تخرج ممَّا جمعت منه ورعت ما ينفعها إخراجه من البراز والبول، فهذا لا يقتلها ما رعت، فضرب ◙ هذا مثلًا لمن تصدَّق، وأخرج من ماله ما ينفعه إخراجه(18) ممَّا لو أمسكه لضرَّه إثمه كما يضرُّ الَّتي رعت لو أمسكت البول والغائط ولم تُخرجه، وبيَّن هذا المعنى قوله(19) ◙ في المال: ((فَنِعْمَ صَاحِبُ المُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ المِسْكِينَ وَاليَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ))، وفي هذا تفضيل للمال.
          وقال الخطَّابيُّ: الخضر ليس من أحرار البقول الَّتي تستكثر منها الماشية فتُنهكه أكلًا، ولكنَّه من الجنبة الَّتي ترعاها بعد هيج العشب ويبسه، وأكثر ما رأيت العرب تقول: الخضر لما اخضرَّ من الكلأ الَّذي لم(20) يصفرَّ، والماشية من الإبل ترتع منه شيئًا شيئًا، فلا(21) تستكثر منه فلا(22) تحبط بطونها عليه، وقد ذكره طرفة وبيَّن أنَّه ينبت في الصَّيف فقال:
(23) إِذَا أَنبَتَ الصَّيفُ عَسَاليجَ الخَضرِ
          والخضر من كلأ الصَّيف، وليس من أحرار بقول الرَّبيع، والنَّعم لا تستوبله(24) ولا تحبط بطونها عليه، وأمَّا قوله: (فَإنَّ(25) هَذَا المالَ خَضِرَةٌ)، فإنَّ العرب تُسمِّي الشَّيء الحسن المشرق خضرًا تشبيهًا(26) بالنَّبات الأخضر الغضِّ، قال تعالى(27): {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا}[الأنعام:99]ومنه قولهم(28): اختضر الرَّجل، إذا مات شابًا لأنَّه يُؤخذ في وقت الحُسن والإشراق، يقول: إنَّ المال يعجب النَّاظرين إليه ويحلو في أعينهم، فيدعوهم حسنه إلى الاستكثار منه، فإذا(29) فعلوا ذلك تضرَّروا به كالماشية إذا استكثرت في(30) المرعى ثلطت(31) والثَّلْط: السَّلح الرَّقيق.
          قال(32) ابن الأنباريِّ: قوله ◙: (إِنَّ هذَا المالَ خَضِرَةٌ حُلوَةٌ) يدلُّ أنَّ المال يؤنَّث، وقال غيره: ليس بتأنيث لأنَّ قوله(33): (خَضِرة(34)) لم يأت على الصِّفة وإنَّما أتى على التَّمثيل والتَّشبيه، كأنَّه قال: إنَّ هذا المال كالبقلة الخضرة الحلوة، ونقول: إنَّ هذا السُّجود حسنة والسُّجود مذكَّر، فكأنَّه قال: السُّجود فعلة حسنة.
          قال المُهَلَّب: وفيه: جواز ضرب الأمثال في الحكمة، وإن كان لفظها بالبراز والبول والكلام الوضيع، وفيه: جواز اعتراض التِّلميذ على العالم في الأشياء المجملة حتَّى يفسِّر له ما يبيِّن معناها(35)، وفيه: دليل على أنَّ الاعتراض إذا لم يكن موضعه بيِّنًا أنَّه منكر على المعترض به، ألا تراهم أنكروا على السَّائل، وقالوا له: تكلِّم النَّبيَّ صلعم، ولا يكلِّمك؟ إلَّا أنَّ قوله: (أَيْنَ السَّائِلَ؟ فكأنَّه حمدَه) يدلَّ(36) أنَّ من سأل العالم وباحثه عمَّا ينتفع به، ويفيد حكمه أنَّه محمود من فعله.
          وفيه: أنَّ العالم(37) إذا سُئل أن يمطل بالجواب حتَّى يتيقَّن أو يطَّلع المسألة عند من فوقه من العلماء، كما فعل النَّبيُّ صلعم في سكوته عنه حتَّى استطلعها من قبل الوحي، وفيه: أنَّ المكتسب للمال من غير حلِّه غير مبارك له فيه، لقوله: (كَالَّذِي يَأكُلُ وُلُا يَشبَعُ) لأنَّ الله تعالى قد رفع عنه البركة(38)، وألقى في قلوب آكليه ومكتسبيه(39) الفاقة وقلَّة القناعة، ويشهد لهذا قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}[البقرة:276]فالمحق أبدًا في المال المكتسب من غير الواجب.
          قوله(40): (يَكُونُ شَهِيدًا عَلَيهِ(41) يَومَ القِيَامَة) يعني _والله أعلم_ أنَّه يمثَّل له مالُه شجاعًا أقرع، ويأتيه في صورة تشهد عليه بالخيانة لأنَّه آيةٌ معجزةٌ، ولا أكبر شهادة من المعجزات، وفيه: أنَّ للعالم أن يحذِّر من يجالسه من فتنة المال وغيره، وينبِّههم على مواضع الخوف من الافتتان به، كما قال ◙: (إنَّ ممَّا أَخشَى عَلَيكُم) فوصف لهم ما يخاف عليهم ثمَّ عرَّفهم بمداواة تلك الفتنة، وهي إطعام المسكين واليتيم(42) وابن السَّبيل، وقد جاء عن النَّبيِّ أنَّ الصَّدقة على اليتيم تُذهب قساوة القلب، وسأذكره في باب فضل من يعول يتيمًا، في كتاب الأدب إن شاء الله.


[1] في (ص): ((فقال إنما)).
[2] في (م): ((فرأيت)).
[3] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[4] في (ز) و(ص): ((حمزة)) والمثبت من (م).
[5] قوله: ((أَوْ كَمَا قَالَ النبي ◙)) ليس في (م).
[6] في (م): ((فيه)).
[7] في (م): ((وقول النبي)).
[8] زاد في (م): ((إنه)).
[9] في (م): ((فيه)).
[10] في (م): ((أمر)).
[11] في (م): ((الإكثار)).
[12] في (م): ((عن)).
[13] في (م): ((بالمانع)).
[14] في (م) صورتها: ((أحران العشب)).
[15] قوله: ((وقوله)) زيادة من (م) وفيها بعدها: ((أو تلم)).
[16] في (ز): ((والثوب)) والمثبت من (م).
[17] قوله: ((وقوله)) ليس في (م).
[18] قوله: ((من البراز والبول.... ما ينفعه إخراجه)) زيادة من (م).
[19] في (م): ((بقوله)).
[20] قوله: ((لم)) زيادة من (م).
[21] في (م): ((ولا)).
[22] في (م): ((ولا)).
[23] زاد في (م): ((كبنات المخر يمأذن)).
[24] في (ز) صورتها: ((لا تستوكأ)) والمثبت من (م).
[25] في (م): ((وقوله إن)).
[26] زاد في (م): ((له)).
[27] في (م): ((قال الله تعالى)).
[28] زاد في (م): ((قد)).
[29] في (م): ((وإذا)).
[30] في (م): ((من)).
[31] في (م): ((حبطت)).
[32] في (م): ((وقال)).
[33] قوله: (((إن هذا المال خضرة حلوة) يدل...... لأن قوله)) زيادة من (م).
[34] زاد في (م): ((حلوة)).
[35] في (م): ((بما يبين به معناها)).
[36] قوله: ((له: تكلِّم.... حمدَه، يدل)) زيادة من (م).
[37] في (م): ((للعالم)).
[38] في (م): ((البركات)).
[39] في (م): ((قلب آكله ومكتسبه)).
[40] في (م): ((وقوله)).
[41] في (م): ((يكون عليه شهيدًا)).
[42] في (م): ((إطعام اليتيم والمسكين)).