التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الأمر باتباع الجنائز

          ░2▒ بَابُ الأَمْرِ باتِّبَاعِ الجَنَائِزِ.
          1239- ذَكَر فيه حديثَ البَرَاءِ: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ) الحديث.
          1240- وحديثَ أبي هُرَيْرَةَ: (حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمسٌ) فَذَكَرَ منها: (وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ).
          أمَّا حديثُ البراءِ فأخرجهُ البُخاريُّ في عشرةِ مواضعَ مِن «صحيحه» [خ¦2445] [خ¦5175] [خ¦5635] [خ¦5650] [خ¦5838] [خ¦5849] [خ¦5863] [خ¦6222] [خ¦6235] [خ¦6654] وسقطَ منه هنا الخصلةُ السَّابعةُ مِن المنهيِّ عنها وهي ((ركوبُ المياثِرِ)) أخرجها في الاستئذانِ [خ¦6235] والأشربة [خ¦5635] وفي موضِعٍ: ((عن الْمَيَاثِرِ الحُمْرِ)) [خ¦5838] [خ¦5849]. وجاء: ((وإِبْرَارِ القَسَمِ أو الْمُقْسِمِ)) [خ¦2445] [خ¦5175] وفي أصل الدِّمياطيِّ: (القَسَمِ) وفي الحاشيةِ: <المُقْسِمِ> وفي موضعٍ آخَرَ ((وإبرارِ المقسِم)) مِن غيرِ شكٍّ [خ¦5635] [خ¦5863] [خ¦6222] [خ¦6235] وهنا: (عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ) وفي موضعٍ: ((أو عن خواتيمِ)) [خ¦5175] [خ¦5635] أو ((تَخَتُّمِ)) [خ¦6235] وفي موضعٍ: ((عن خاتم الذَّهب أو حلقة الذَّهب)) [خ¦5863] [خ¦6222] وفي موضعٍ: ((وعن الشُّرْبِ في آنيةِ الفِضَّةِ، فإنَّه مَن شَرِبَ منها في الدُّنيا لم يشربْ منها في الآخرةِ)) وفي لفظٍ: ((إفشاءِ السلام)) بدل: ردِّه [خ¦5175] [خ¦5635] [خ¦6235].
          وحديثُ أبي هُرَيْرَةَ أخرجه مسلمٌ بزيادةِ: ((وتنصحُ له إذا غاب أو شَهِدَ، وإذا استنصحكَ فانصحه)) وشيخُ البخاريِّ فيه (محمَّدٌ) هو الذُّهْلِيُّ صرَّح به غيرُ واحدٍ.
          وقولُ البُخاريِّ: (تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، وَرَوَاهُ سَلَامَةُ، عَنْ عُقَيلٍ) هذه المتابعةُ أخرجها مسلمٌ عن عبدِ الرَّزَّاقِ عن مَعْمَرٍ عن الزُّهريِّ.
          إذا تقرَّرَ ذلك فالكلامُ على الحديثِ الأوَّلِ مِن أوجُهٍ تحتمل مؤلَّفًا:
          أحدُها: إنَّما ذَكَرَ بعضَ الأوامرِ الَّتي أُمِرُوا بها في وقتٍ، فمنها اتِّباعُ الجنائزِ ودفنُها والصَّلاةُ عليها مِن فروض الكفاية عند جمهورِ العلماء، وقال أصبغُ: الصَّلاةُ عليه سُنَّةٌ، والمشيُ عندنا أمامَها بِقُرْبِها أفضلُ لِلِاتِّباعِ كما يأتي بَسْطُه في موضِعِه، وبه قال أحمد لأنَّه شفيعٌ.
          وعند المالكيَّةِ ثلاثةُ أقوالٍ ثالثُها: المشاة أمامَها، ومشهورُ مذهبِهم كمذهبِنا. وقال أبو حنيفةَ: خلفَها. وأمَّا النِّساءُ فيتأخَّرْنَ، ويجوزُ عندهم للقواعدِ ويحرُم على مخشيِّةِ الفتنةِ، وفيما بينهما الكراهةُ إلَّا في القريبِ جدًّا كالأبِ والابنِ والزَّوجِ، والأصحُّ عندنا الكراهةُ في اتِّباعِهنَّ فقط إذا لم يتضمَّن حرامًا، وقيل: حرامٌ. قال الدَّاوديُّ: فاتِّباعُ الجنائز حَمَلَها بعضُ النَّاسِ عن بعضٍ، قال: / وهو واجبٌ على ذي القرابةِ الحاضرِ والجارِ وكذا عيادةُ المريض، ونراه التأكُّدَ لا الوجوبَ الحقيقيَّ.
          ثمَّ الاتِّباعُ على ثلاثةِ أقسامٍ: أن يُصَلِّيَ فقطْ فله قيراطٌ. ثانيها: أنْ يذهبَ فيشهدَ دفْنَها، فله اثنان. ثالثُها: أن يلقِّنَه، ورُوي عن ابنِ عُمَرَ أنَّه كان يقرأُ عنده بعد الدَّفْنِ أوَّلَ البَقَرَةِ وخاتِمَتَها.
          ثانيها: عيادةُ المريضِ، وهي مطلوبةٌ وفيها أحاديثُ جمَّةٌ ذكر البُخاريُّ بعضَها فيما يأتي، وهي بعدَ ثلاثٍ وفيه حديثٌ.
          ثالثُها: إجابةُ الدَّاعي، إن كانت إلى نِكاحٍ فجمهورُ العلماءِ على الوجوبِ، قالوا: والأكلُ واجبٌ على المفطِرِ بشروطٍ وعندنا مستحبٌّ، وغيرُها يراهُ العلماءُ حَسَنًا مِن بابِ الأُلْفَةِ وحُسْنِ الصُّحبةِ.
          رابعُها: نَصْرُ المظلومِ فرضٌ على مَن قدرَ عليه ويُطاع أَمْرُهُ، وإبرارُ المقسِمِ خاصٌّ فيما يَحِلُّ، وهو مِن مكارم الأخلاقِ، فإنْ ترتَّبَ على تَرْكِه مصلحةٌ فلا كقولِ الشَّارعِ للصِّدِّيق لَمَّا قال له: ((أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بعضًا)) فأقسَمَ عليه لَيُخبِرَه، قال: ((لَا تُقْسِمْ)) ولم يخبرْهُ.
          خامسُها: ردُّ السَّلام فرضٌ على الكفايةِ عند مالكٍ والشَّافعيِّ، وعند الكوفيِّين فرضُ عينٍ على كلِّ أَحَدٍ مِن الجماعةِ، وحكاه صاحبُ «المعونة» أيضًا وقال: الابتداءُ بالسَّلامِ سُنَّةٌ وردُّه آكَدُ مِن ابتدائِه، وأقلُّهُ السَّلام عليكم، قال مالكٌ: ولا ينبغي سلامُ الله عليك.
          سادسُها: تشميتُ العاطسِ بالمهمَلَةِ والمعجمَةِ متأكَّدٌ، وهو قولُه في جوابِ العاطسِ رحمك الله إذا حَمِدَ الله، ولْيَرُدَّ يهديكم اللهُ ويُصْلِحْ بالَكُم، ورُوِيَ عن الأوزاعيِّ أنَّ رجلًا عطس بِحَضْرتِه فلم يحمد فقال له: كيف تقولُ إذا عطستَ؟ قال: الحمدُ لله، فقال له: يرحمك الله. وجوابُه كفايةٌ خلافًا لبعْضِ المالكيَّةِ، قال مالكٌ: ومَن عطس في الصَّلاةِ حَمِدَ في نفْسِه، وخالفه سُحنُون فقال: ولا في نفْسِه.
          سابعُها: قولُه: (وَنَهَانَا عَنْ آنِيَةِ الفِضَّةِ) هو نَهْيُ تحريم، وكذا الذَّهبُ لأنَّه أشدُّ فإنَّ التختُّمَ به على الرِّجالِ حرامٌ بخلافِ الفِضَّةِ.
          (وَالحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالقَسِّيِّ وَالإِسْتَبْرَقِ) كرَّرها _وهي كلُّها حرِيرٌ_ تأكيدًا. (وَالدِّيبَاجِ) بكسرِ الدَّالِ، (وَالقَسِّيِّ) بفتْحِ القافِ وتشديدِ السِّينِ، قال القزَّاز: والمحدِّثون تقولُه بكسْرِ القافِ والوجهُ الفتحُ، وهي ثيابٌ مضلَّعَةٌ بالحريرِ تُعمَلُ بالقَسِّ بقرب دِمْيَاط. (وَالإِسْتَبْرَقِ) ثخينُ الدِّيباجِ على الأشهَرِ، وقيل رقيقُه.
          والحريرُ حرامٌ على الرِّجالِ مِن غيرِ ضرورةٍ وتداوٍ، وما غالبُهُ الحريرُ حرامٌ، وفي إجازتِه في الغزوِ قولانِ: الجوازُ لابنِ حبيبٍ والمنعُ لغيرِه. قال في «الواضحة»: ولم يختلفوا في إجازةِ لباس الخزِّ، وليسَ بين الخزِّ وما عداهُ مِن القطنِ وغيرِه فَرْقٌ إلَّا الاتباعُ، واعترض ابنُ التِّينِ فقال: ذَكَرَ في الحديثِ سِتًّا ويحتمل أنَّه أرادَ آنيةَ الفِضَّةِ وآنيةَ الذَّهبِ فاجتُزِئَ بأحدِهِما عن الآخرِ، وهو عجيبٌ منه فقد ذكرناها لك فيما مضى فاستفِدْها.
          وأمَّا حديثُ أبي هُرَيْرَةَ فالحقُّ فيه بمعنى حقِّ حُرمَتِه عليه وجميلِ صحبتِه له لا أنَّه مِن الواجبِ، ونظيرُه حديثُ: ((حقٌّ على المسلِم أن يغتسلَ كلَّ جمعةٍ)) وستأتي هذه الأحكامُ مبسوطةً في مواطنِها مِن الاستئذانِ والسَّلامِ ودعوةِ الوليمةِ وغيرِ ذلك، وإنَّما أشرنا إليها هنا.