التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله

          ░80▒ بَابٌ إِذَا قال المُشْرِكُ عِنْدَ المَوْتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
          1360- ذَكَرَ فيه حديثَ ابنِ شِهَابٍ عن سَعِيدِ بْنِ المسيِّب، عَن أَبِيهِ فِي وَفَاةِ أَبي طَالِبٍ... إِلَى قَوْلِهِ: (فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى فِيهِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية [التوبة:113]) وفيه: (قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أَشَهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ).
          وفي لفظٍ: ((أُحَاجُّ)) بَدَلَ: (أَشْهَدُ) وأخرجه مسلمٌ مِن حديثِ أبي حازمٍ عن أبي هريرة مختصرًا وفيه: ((فنزلَتْ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56])) وأخرجَهُ الحاكِمُ مِنْ حديثِ سعيدٍ عن أَبِي هُرَيْرَة ثُمَّ قال: صَحيحُ الإسنَاد ولم يخرجاه فَإنَّ يونس وعقيلًا أرسلاه عن الزُّهريِّ عن سعيدٍ، وطريقُ الزُّهريِّ عن سعيدٍ عن أبيهِ مشهورٌ.
          ونقل الواحديُّ بإسْنَادِهِ عن الزَّجَّاج إِجْمَاعَ المُفسِّرِينَ أَنَّهَا نزلتْ في أبي طالبٍ، واستبعده الحسن بن الفضل لأنَّ السُّورةَ مِنْ آخِرِ ما نزلَ مِن القرآنِ، ومات أبو طالبٍ في عُنفوانِ الإسلامِ بمكَّةَ.
          إذا تقرَّر ذَلكَ فالكلامُ عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدُها: أنَّ حديثَ البابِ مِن أفراد «الصَّحيح» لأنَّ المسيِّبَ لم يروِ عنْهُ غيرُ ابنه سعيد، ثُمَّ هو مِن مراسيلِ الصَّحَابَةِ لأَنَّهُ _على قولِ مصعبٍ_ هو وأبوه مِنْ مُسْلِمَةِ الفتح، وعلى قولِ العسكريِّ بايعَ تحتَ الشَّجرةِ، وأيًّا ما كان فَلَمْ يشهدْ أمْرَ أبي طالبٍ لأنَّهُ توفِّيَ هو وخديجةُ في أيَّامٍ ثلاثةٍ حَتَّى كان النَّبيُّ صلعم يُسمِّي ذلك العامَ عامَ الحزن، وكان ذلك وقد أتى لرسولِ الله صلعم تسعٌ وأربعونَ سنةً وثمانيةُ أشهرٍ وأحدَ عشرَ يومًا. وقيل: ماتَ في شوَّالٍ في نصفِه مِن السَّنَة العاشرة مِنَ النُّبُوَّة. وقال ابن الجزَّار: قَبْلَ الهِجْرَة بثلاثِ سنين، وقيل بخمسٍ، وقيل بأربعٍ، وقيل بعدَ الإسراء. ومِنَ الغريبِ ذِكْرُ ابنِ حِبَّان له في ثقاتِ التَّابعين.
          ثانيها: إنْ قلتَ: قد استغفرَ الشَّارعُ يومَ أُحُدٍ لهم فَقال: ((اللهُمَّ اغفِرْ لِقَومِي فَإنَّهم لَا يَعْلَمُونَ)) قلتُ: استغفارُه لقومِه مشروطٌ بتوبتِهم مِن الشِّرْكِ كأَنَّهُ أراد الدُّعَاءَ لهم بالتَّوبةِ، وقد جاء في روايَةٍ: ((اللهُمَّ اهْدِ قَوْمِي)) وقيل: أرادَ مغفرةً تصرِفُ عنهم عقوبةَ الدُّنيا مِن المسْخِ وشبهه، وقيل: تكونُ الآيةُ تأخَّرَ نزولُهَا فنزلَتْ بالمدِينةِ ناسخةً للاستغفارِ للمشركِين، فيكُونُ سببُ نزولِها متقدِّمًا ونزولُها متأخِّرًا لا سيَّمَا وبراءةُ مِن آخرِ ما نزلَ فتكونُ على هذا ناسِخةً للاستغفار، لا يُقال: لا يصحُّ أن تكونَ الآيَةُ الَّتِي نزلَتْ في عمِّهِ ناسخةً لاستغفارِهِ يومَ أُحُدٍ لأنَّ عمَّهُ توفِّي قبْلَ ذلك لما قرَّرناه.
          ثالثُها: اسمُ أبي طالبٍ عبدُ مَنافٍ، قالَهُ غيرُ واحِدٍ، وقالَ الحاكِم: تواترَت الأخبَارُ أنَّ اسمَه كنيتُهُ، قال: وَوُجِدَ بخطِّ عليٍّ ☺ الَّذي لا شكَّ فيه: وكَتَبَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ. وقالَ أبو القاسِمِ المغرِبِيُّ الوزير: اسمُه عِمران.
          رابعُها: أبو جهلٍ كُنيتُه أبو الحَكَمِ، كذا كنَّاهُ رسولُ الله صلعم، وقال ابن الحذَّاء: أبو الوليدِ. واسمُه عمرو بن هشام بن المغيرة المَخْزُوميُّ، ويُقال له ابنُ الحَنْظَليَّةِ واسمُها أسماءُ بنتُ سلامةَ بنِ مَخْرَمَةَ، وكان أحولَ مأبونًا، وكان رأسُهُ أوَّلَ رأسٍ جُزَّ في الإسلامِ فيما ذَكَرَهُ ابنُ دُرَيدٍ في «وشاحه».
          وعبدُ الله بن أبي أميَّةَ أمُّهُ عاتكةُ عمَّةُ رسولِ اللهُ صلعم، تُوُفِّيَ شهيدًا بالطَّائفِ أخو أمِّ سَلَمةَ، وكان شديدًا على المسلمينَ معاديًا لرسولِ الله صلعم، أسلمَ قُبَيْلَ الفتح هو وأبو سفيان بن الحارث بنِ عبدِ المُطَّلِب. ولهم عبدُ الله بن أبي أميَّة بن وهبٍ حليفُ بني أَسَدٍ وابنُ أُختِهم استشهدَ بخيبرَ، ولهم عبدُ الله بن أميَّة اثنانِ أحدُهما بدريٌّ.
          خامسُها: إنَّمَا تنفع كلمةُ التَّوْحِيدِ مَن قالَها قَبْلَ المعاينةِ للملائكةِ الَّتي تقبِضُ الأرواحَ فحينئذٍ تنفعُه، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} الآية [النساء:18] والمراد بحضورِ الموتِ حضورُ مَلَكِ الموتِ _وهي المعاينةُ_ لِقَبْضِ رُوحِهِ، ولا يراهم أحدٌ إلَّا عندَ الانتقالِ مِنَ الدُّنيا إلى الآخرَةِ، فلمْ يُحكَمْ بما انتقَلَ إليه حين أدركَه الغرقُ بقولِه: {آمَنْتُ} الآية [يونس:90] فقيل له: {آلْآنَ} [يونس:91] قالَها حين عاينَ مَلَكَ الموتِ ومَن معه مِن الملائكةِ وأيقنَ، فحثا جبريلُ في فمِه الْحَمْأَةَ ليمنعَه استكمالَ التَّوحيدِ حَنَقًا عليه. ويدلُّ على ذلك قولهُ تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} الآية [الأنعام:158] أي لَمَّا رأى الآيةَ الَّتي جعلها الله علامةً لانقطاعِ التَّوبةِ وقَبولها لم ينفَعْه ما كان قَبْلَ ذلك كما لم ينفع الإيمانُ بعدَ رؤيةِ الملَكِ.
          والمُحَاجَّةُ السَّابقةُ تحتملُ وجوهًا:
          أحدُها: أن يكونَ الشَّارعُ ظنَّ أنَّ عمَّهُ اعتقدَ أنَّ مَن آمن في مثلِ حالِه أنَّهُ لا ينفعُه إيمانُه إذا لم يقارنْه عملٌ سواه، فأعلمه أَنَّهُ مَن قال هذِهِ الكلمةَ أنَّهُ يدخُلُ في جملةِ المؤمنين وإن تعرَّى عن عملِ سواها.
          ثانيها: أن يكونَ أبو طالبٍ قد عاينَ أمْرَ الآخرةِ وأيقنَ بالموتِ وصار في حالةٍ لا ينتفعُ بالإيمان لو آمَن، وهو الوَقتُ الَّذي قال فيهِ: أنا على ملَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ عندَ خروجِ نفْسِه، / فَرَجَا له صلعم أنَّ مَنْ قالَها وأقرَّ بنبوَّتِهُ أن يشفعَ له بذلك ويُحاجَّ له عند الله في أنْ يتجاوزَ عنه ويتقبَّلَ منه إيمَانَه في تلك الحال، ويكونُ ذلك خاصًّا لأبي طالبٍ وحدَهُ لمكانِهِ مِنَ الحمايةِ والمدافعةِ عن رسول الله صلعم.
          وفيه نزلتْ: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] على قولِ ابنِ عبَّاسٍ، وقال مُجاهدٌ: يعني به قريشًا، وأكثرُ المُفسِّرين أنَّهُ للكفَّار ينهَون عن اتِّباعِه ويَبعُدُونَ عنه، وهو أشبهُ لأنَّهُ متَّصلٌ بأخبار الكفَّار، وقد رُويَ مثلُ هذا المعنى عن ابن عبَّاسٍ، ألَا ترى أنَّهُ قد نفعَهُ وإن كان قد ماتَ على غيرِ دينِ الإسلام لِأَنْ يَكُونَ أخفَّ أهلِ النَّارِ عذابًا فهوَ في ضحضاحٍ مِن نارٍ يغلي منه دماغُه، ولولا الشَّارعُ لكانَ في الدَّرْكِ الأسفلِ، فنفْعُه له لو شَهِدَ بشهادةِ التَّوْحيدِ وإن كان ذلك عندَ المعاينةِ أحرى بأن يكون.
          ثالثُها: أنَّ أبا طالبٍ كان ممَّن عايَنَ البراهينَ وصدَّقَ معجزاتِه ولم يشُكَّ في صحَّةِ نُبُوَّتِه، وإن كان ممَّن حملَتْهُ الأنَفَةُ وحمِيَّةُ الجاهليَّةِ على تكذيبِه، وكان سائرُ المشركين ينظرون إلى رؤسائِهم ويتَّبِعونَ ما يقولون، فاستحقَّ أبو طالبٍ ونظراؤه على ذلك مِن عظيم الوِزرِ وكبير الإثم أَنْ باؤوا بإثمِهم على تكذيبِه، فَرَجَا له المحاجَّةَ بكلمةِ الإخلاصِ عند الله حَتَّى يسقُطَ عنه اسمُ العنادِ والتَّكذيبِ لَمَّا قد تَبَيَّنَ حقيقتَه وإِثْمَ مَنِ اقتدى بهِ في ذلكَ، وإن كان الإسلامُ يهدِمُ ما قَبْلَهُ لكنَّهُ آنَسَهُ بقولهِ: ((أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)) لئلَّا يتردَّدَ في الإيمانِ ولا يتوقَّفَ عنه لتمادِيهِ على خلافِ ما تُبَيِّنُ حقيقتُه وتورُّطُه في أنَّهُ كان مُضِلًّا لغيرِه.
          وقيل: إنَّ قوله: ((أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)) كقولِه (أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ) لأنَّ الشَّهَادةَ للمرْءِ حجَّةٌ لهُ في طلبِ حقِّه، ولذلك ذَكَرَ البخاريُّ هنا الشَّهادةَ لأنَّهُ أقربُ للتأويلِ وذَكَرَ (أُحَاجُّ) في قصَّةِ أبي طالبٍ في كتاب المبعثِ [خ¦3884] لاحتمالِها التَّأويلَ.
          ووقع لابن إسحاقَ أنَّ العبَّاسَ قال لرسولِ الله صلعم: يا ابنَ أخي إنَّ الكلمةَ الَّتي عرضتَها على عمِّكَ سمعتُه يقولُها، فقالَ صلعم: ((لمْ أسمع)) قال السُّهيليُّ: لأنَّ العبَّاسَ قال ذلك في حالةِ كونِه على غيرِ الإسلامِ، ولو أدَّاهَا بعدَ الإسلامِ لقُبِلَتْ منه كما قُبِلَ مِن جُبَيرِ بن مُطْعِمٍ حديثُه الَّذي سمِعَهُ في حالِ كفرِهِ وأدَّاهُ في الإسلامِ.
          وفي مسلمٍ: ((فلم يزَلْ رسولُ الله صلعم يَعرِضُها عليه)) أي بفتْحِ الياءِ وكسْرِ الرَّاء ((ويعودُ له بتلك المقالةِ)) يعني أبا طالبٍ، وفي روايةٍ: ((ويُعيدانِه)) على التَّثنِيَةِ يعني أبا جهلٍ وعبدَ الله، ووقعَ في مسلمٍ: لولا تعيِّرُني قريشٌ تقولُ إنَّمَا حمله على ذلك الجَزَعُ. وهو بالجيمِ والزَّايِ وهو الخوفُ، وذهبَ الهَرَويُّ والخَطَّابيُّ فيما رواه عن ثعلبٍ في آخَرين أنَّهُ بخاءٍ معجمَةٍ وراءٍ مهملةٍ مفتوحتَيْنِ، قال عياضٌ: ونبَّهَنا غيرُ واحدٍ أنَّهُ الصَّوَاب، ومعناه: الضَّعْفُ والخَوَرُ.
          وقولُه في الآية {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة:113] هو نَهْيٌ، ومِثْلُهُ {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ} [الأحزاب:53] وإِنْ كانَتْ ما تأتِي أيضًا للنَّفي {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النَّمل:60] {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} [آل عمران:145] وتأوَّلَ بعضُهم الاستغفارَ هنا بمعنى الصَّلَاةِ.