التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصلاة على الشهيد

          ░72▒ بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ.
          1343- 1344- ذَكَرَ فيه حديثَ جابرٍ وحديثَ عُقبةَ بنِ عَامرٍ.
          أمَّا حديثُ جابرٍ فذكَرَهُ مِنْ حديثِ اللَّيثِ عن ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحمن بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالكٍ، عَنْ جَابِرٍ قال: (كَانَ النَّبيُّ صلعم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ) إِلَى أَنْ قال: (وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ) وهو مِنْ أَفرادِهِ.
          قال التِّرمِذيُّ: حديثُ جابرٍ حسنٌ صحيحٌ. وقال محمَّدٌ: هو حديثٌ حسنٌ. قال التِّرمِذيُّ: وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن الزُّهريِّ عن أنسٍ عن رسولِ الله صلعم، ورُوِيَ عن الزُّهريِّ عن ثَعْلَبَة بنِ أبي صُعَيْرٍ عن رسولِ الله صلعم، ومنهم مَنْ ذَكرَهُ عن جابرٍ، وقال النَّسائيُّ: ما أعلَمُ أحدًا تابعَ اللَّيثَ مِنْ ثِقَاتِ أصحابِ الزُّهريِّ على هذا الإسنادِ واخْتُلِفَ على الزُّهريِّ فيه.
          ورواه البَيهَقيُّ مِنْ حديثِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عبدِ العزيزِ الأنصاريِّ حدَّثَنَا الزُّهريُّ حدَّثَنَا عبدُ الرَّحمنِ بنُ كعْبِ بنِ مالكٍ عن أبيهِ أنَّ النَّبيَّ صلعم قالَ يومَ أُحُدٍ: ((مَنْ رَأَى مقتَلَ حمزةَ)) الحديث، وفيه زياداتٌ ليستْ في روايةِ اللَّيثِ، وفي رواية اللَّيثِ زيادةٌ ليستْ في هذِهِ فيحتملُ أنْ تكونَ روايتُه عن جابرٍ وعن أبيهِ صحيحتين وإن كانتا مختلفتين، فاللَّيثُ بنُ سعدٍ إمامٌ حافظٌ فروايتُهُ أَوْلَى، وقال ابنُ أبي حاتمٍ عن أبيه: عبدُ الرَّحمن بنُ عبدِ العزيزِ شيخٌ مدنيٌّ مضطربُ الحديثِ. قلتُ: وعبدُ الرَّحمنِ ليسَ صحابيًّا لأنَّه عبدُ الرَّحمن بنُ عبدِ الله بنِ كعْبِ بنِ مالكٍ، نصَّ على ذلكَ البُخاريُّ وابنُ حِبَّان وغيرُهما، بل قال ابنُ عبدِ البَرِّ: عبدُ الرَّحمن لمْ يَسمَعْ مِنْ جدِّه، وحُكي ترجيحُ ذلكَ عن الذُّهْليِّ.
          وللتِّرمِذيِّ والحاكِمِ مِنْ طريقِ أسامةَ بنِ زيدٍ عن الزُّهريِّ عن أنسٍ: ((لَمَّا كانَ يومُ أُحُدٍ مرَّ رسول الله صلعم بحمزَةَ)) وفيه: ((ولمْ يُصَلِّ على أحدٍ مِنَ الشُّهداءِ غيرِه)) قال التِّرمِذيُّ: غريبٌ، وقال الحاكم: ((ولم يصلِّ عليهم)) ثُمَّ قال: صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ ولم يُخرجاه، وأخرجَ البُخاريُّ وحْدَهُ حديثَ الزُّهريِّ عن ابنِ كعْبٍ عن جابرٍ ((أنَّ النَّبيَّ صلعم لمْ يُصَلِّ عليهم)) وليس فيه هذِه الألفاظُ المجموعةُ الَّتي تفرَّدَ بها أسامةُ بنُ زيدٍ اللَّيثيُّ عن الزُّهريِّ، وقال البُخاريُّ فيما نقلَهُ التِّرمِذيُّ: حديثُ أسامةَ هذا غيرُ محفوظٍ غَلِطَ فيه أسامةُ. قال الدَّارَقُطْنيُّ: وهذِه اللَّفظةُ: ((ولمْ يُصَلِّ على أَحَدٍ مِنَ الشُّهداء غيرَه)) ليستْ بمحفوظةٍ.
          وأمَّا حديثُ عُقْبةَ فأخرجه مِنْ حديثِ أَبِي الخَيْرِ عنه: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم خَرَجَ يَوْمًا فَصلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ) الحديث.
          وفي لفظٍ: ((بَعْدَ ثمانِ سنين)) وعند مسلمٍ: ((صَعِدَ المنبرَ كالمودِّعِ للأحياءِ والأمواتِ)) قال عُقْبَةُ: ((فكانَتْ آخِرَ ما رأيتُ رسولَ الله صلعم على المنبر)).
          واختلف العلماءُ في هذا البابِ فقالَ مالكٌ: الَّذي سمعْتُه مِن أهلِ العلمِ والسُّنَّةِ أنَّ الشُّهداءَ لا يُغسَّلونَ ولا يُصلَّى على أحدٍ منهم ويُدفنونَ بثيابِهم الَّتي قُتلُوا فيها، وهو قولُ عطاءٍ والنَّخَعيِّ والحَكَمِ واللَّيثِ والشَّافعيِّ وأحمدَ وأكثرِ الفقهاءِ كما حكاهُ عنهم ابنُ التِّيْنِ.
          وقالَ أبو حَنِيفةَ والثَّوريُّ والمُزَنيُّ والأوزاعيُّ: يُصلَّى عليهِ ولا يُغسَّل، وهو قولُ مكحولٍ وروايةٌ عن أحمدَ، وقالَ عِكرمةُ: لا يُغسَّل لأنَّ الله قدْ طيَّبهُ ولكنْ يُصلَّى عليه. وقالَ سعيدُ بن المسيِّب والحسنُ البصريُّ كما حكاهُ ابنُ أبي شَيبةَ: يُغسَّلُ ويصلَّى عليه لأنَّ كلَّ ميِّتٍ يُجنِبُ.
          حُجَّةُ الأوَّلينَ حديثُ جابرٍ أنَّهم (لَمْ يُغسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ) بفتْحِ اللَّامِ، وأيضًا فلا تُغيَّرُ حالُهم. ويومُ أُحدٍ قُتِلَ فيه سبعونَ نَفْسًا فلا يجوزُ أن تَخْفى الصَّلاةُ عليهم. ولأنَّه حيٌّ بنصِّ القرآن. ولأنَّ القتلَ قد طهَّرهُ واللهُ قد غَفَرَ له ويأتي يومَ القيامة بِكَلْمِهِ ريحُ دمِه مِسكٌ.
          واحتجَّ أبو حَنِيفةَ ومَنْ وافقه بحديثِ عُقبةَ في البابِ وبما رُوي أنَّه ((صلَّى على حمزةَ سبعينَ صلاةً)) وأجابَ الأوَّلونَ بأنَّ المرادَ الدُّعاءُ، وكذا ما وَرَدَ في غيرِه مِن الأحاديثِ.
          ثُمَّ المخالِفُ يقولُ: لا يُصلَّى على القبرِ بعدَ ثلاثةِ أيَّامٍ، فلا بُدَّ مِنْ تأويلِ الحديثِ أنَّه صلَّى عليهم بعدَ ثمانِ سنينَ بالدُّعاءِ. وصلاتُه على حمزةَ لا تصحُّ أو خاصٌّ به لأنَّه كبَّرَ عليه سبعًا والمخالفُ لا يقولُ بأكثرَ مِن أربعٍ، وقد سَلَفَ أنَّه لم يُصَلِّ على أَحَدٍ مِنْ قتلى أُحُدٍ غيرِه فصارَ مخصوصًا بذلك لأنَّه وَجَدَهُ مجروحًا مُمَثَّلًا به فقالَ: ((لولا أنْ تجزَعَ عليه صفيَّةُ لتركْتُه حَتَّى يحشُرَه اللهُ مِنْ بطونِ الطَّيرِ والسِّباع)) فكفَّنه فِي نَمِرَةٍ إِذَا خَمَّرَ رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاه، وإذا خَمَّرَ رجلَيْه بدَا رأسُه، ولم يُصَلِّ على أَحدٍ غيرِه وقال: ((أنا شهيدٌ عليكُم اليومَ)) ويشهد لهذا المعنى حديثُ جابرٍ، وقولُ سعيدٍ والحسنِ مخالفٌ للآثارِ فلا وجْهَ له.
          قال ابنُ حَزْمٍ: قولُهم إنَّه صلَّى على حمزَةَ سَبعينَ صلاةً أو كبَّرَ سبعينَ تكبيرةً باطلٌ بلا شكٍّ، وقال إمامُ الحرمين في «أساليبِه»: ما ذَكَرَهُ مِنْ صلاتِه صلعم على قتْلَى أُحُدٍ فخطأٌ لم يصحِّحْهُ الأئمَّةُ لأنَّهم روَوْا أنَّه كان يُؤتَى بعشرةٍ عشرةٍ وحمزةُ أحدُهُم، / فَصَلَّى على حمزةَ سبعينَ صلاةً، وهذا غَلَطٌ ظاهرٌ فإنَّ شهداءَ أُحدٍ سبعونَ، وإنَّما يَخُصُّ حمزةَ سبعونَ صلاةً لو كانوا سبْعَ مئةٍ، وقد أوضَح ذلكَ الشَّافعيُّ نفسُه.
          فَرْعٌ: اختُلِفَ فيما إذا جُرحَ في المعركةِ ثُمَّ عاشَ بعدَ ذلكَ أو قُتِلَ ظلمًا بحديدةٍ أو غيرِها فعاشَ، فقالَ مالكٌ: يُغسَّل ويُصلَّى عليه، وبه قال الشَّافعيُّ. وقال أبو حَنِيفةَ: إن قُتِلَ ظلمًا في المِصْرِ بحديدةٍ لم يُغسَّلْ وإن قُتل بغيرِ الحديدِ غُسِّلَ.
          حُجَّةُ الأوَّلِ روايةُ نافعٍ عن ابنِ عمرَ أنَّ عمرَ غُسِّلَ وصُلِّيَ عليه لأنَّه عاشَ بعدَ طعْنَتِه وكانَ شهيدًا ولم يُنكِرْهُ أحدٌ، وكذلكَ جُرِحَ عليٌّ فعاشَ ثُمَّ ماتَ مِنْ ذلكَ فغُسِّلَ وصُلِّيَ عليه ولم ينكِرْهُ أَحَدٌ. وفروعُ الشَّهيدِ كثيرةٌ محلُّها الفروعُ.
          وفيه جوازُ جمْعِ الرَّجُلينِ في ثوبٍ، والظَّاهرُ أنَّه كان يقسِمُهُ بينهم للضَّرورةِ وإن لم يستُرْ إلَّا بعضَ بدنِه، يدُلُّ عليه تمامُ الحديثِ أنَّه كان يَسألُ عن أكثرِهِم قرآنًا فيقدِّمُهُ في اللَّحدِ، فلَوْ أنَّهم في ثوبٍ واحدٍ جُملةً لَسَأَلَ عن أفضَلِهِم قبْلَ ذلكَ كيَلا يؤدِّيَ إلى نقضِ التَّكفينِ وإعادَتِه.
          وفيه التَّفضيلُ بقراءةِ القرآنِ فإذا استوَوْا في القراءةِ قُدِّم أكبرُهما لأنَّ السِّنَّ فضيلةٌ، قال أشهب: ولا يُكفَّنانِ في كَفَنٍ واحِدٍ إلَّا مِنْ ضرورةٍ، وكذا في الدَّفْنِ، قال أشهبُ: وإذا دُفِنَا في قبرٍ لم يُجعل بينهما حاجزٌ مِن التُّرابِ وذلك أنَّه لا معنى له إلَّا التَّضييقُ.
          وفيه دِلالةٌ على ارتفاعِ التَّكليفِ بالموتِ وإلَّا فلا يجوزُ أن يلصَق الرَّجلُ بالرَّجُلِ إلَّا عندَ انقطاعِ التَّكليفِ أو للضَّرورةِ، كذا قال ابنُ العربيِّ وكأنَّه فهِمَ أنَّ تكفينَهم كان جُملةً، وفيه ما أسلَفْناهُ.
          وقولُه: (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ) يعني أنَّهم لم يُعجَّل لهم مِن أجرِهِم شيءٌ في الدُّنيا، وقيل: أشهدُ بإخلاصِهم وصِدْقِهمْ.
          وقولُه: (وَلَمْ يُغَسَّلُوا) قد سَلَفَ أنَّه الصَّوابُ.