التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين

          ░84▒ بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى المُنَافِقِينَ والاسْتِغْفَارِ لِلْمَشْرِكِينَ.
          رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبيِّ صلعم.
          1366- ذَكَرَ فيه حديثَ عمرَ في قِصَّةِ عبدِ الله بن أُبيِّ بن سَلولٍ، وقد سَلَفَ في البابِ، وقد اختلفت الرِّوَايَاتُ في قصَّتِهِ والله أعلم أيُّ ذلك كان، قال ابنُ التِّيْنِ: فإنْ كان هذا محفوظًا فَإِنَّمَا ذكرهُ عمرُ مخافةَ النِّسيانِ، لأنَّهُ بشرٌ ينسى.
          وقولُه: (فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إِلَى {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]) قال الدَّاوُديُّ: إنَّمَا ذاك في قومٍ بأعيانِهم يدلُّ عليه قولُه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ} الآية [التوبة:101] فلم يُنْهَ عمَّا لا يَعْلَمُ، وكذلك إخبارُه لحذيفةَ بسبعةَ عشَرَ مِن المُنَافِقِين ليسوا جميعَهم، وقد كانوا يناكِحونَ المسلمينَ ويُوَارثونَهُم ويجري عليهم حكمُ الإسلامِ لِاستتارِهم بكفْرِهم، ولم يَنْهَ النَّاسَ عن الصَّلاةِ عليهم إِنَّمَا نَهَى عنْهُ النَّبيَّ صلعم وحْدَهُ.
          وكان عمرُ ينظُرُ إلى حذيفةَ فإنْ شهِدَ جِنازةً ممَّن يظنُّ به شَهِدَهُ وإلَّا لمْ يَشْهَدْهُ، ولو كان أمرًا ظاهرًا لم يُسِرَّهُ الشَّارعُ إلى حذيفةَ. وذُكِرَ عن الطَّبِريِّ أَنَّهُ يجبُ ترْكُ الصَّلاةِ على مُعلِنِ الكفْرِ وفسَّرَهُ بهذِهِ، قال: فأَمَّا القيام على قبره فغيرُ محرَّمٍ بل جائزٌ لوليِّه القيامُ عليه لإصلاحِه ودفْنِه، وبذلكَ صحَّ الخبرُ وعَمِلَ به أهلُ العلمِ، وهذا خلافُ ما قدَّمنا أنَّ ولدَ الكافرِ لا يدفنُه ولا يحضُرُ دَفْنَهُ إلَّا أن يضيعَ فيوارِيَه.
          وفي «النَّوادر» عن ابنِ سِيرِين: ما حرَّم اللهُ الصَّلاةَ على أحدٍ مِن أهلِ القِبلةِ إِلَّا على ثمانيةَ عشَرَ رجلًا مِن المنافقين وقد سَلَفَ، وقد قال صلعم لعليٍّ: ((اذْهَبْ فَوَارِهِ)) يعني أَباكَ.
          ورَوَى سعيدُ بن جُبيرٍ قال: ماتَ رجلٌ يهوديٌّ وله ابنٌ مسلمٌ، فذُكِرَ ذلك لابنِ عبَّاسٍ فقال: كان ينبغي له أن يمشيَ معه ويدفنَه ويدعوَ له بالصَّلَاحِ ما دامَ حيًّا، فإِذا ماتَ وكَلَهُ إلى شأنِه، ثُمَّ قرأ {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} الآية [التوبة:114].
          وقال النَّخَعيُّ: توفِّيت أمُّ الحارثِ بن عبد الله بن أبي رَبيعة وهي نصرانيَّةٌ، فاتَّبَعها أصحابُ رسولِ الله صلعم / تكرِمَةً للحارِثِ ولم يصلُّوا عليها، ثُمَّ فُرِضَ على جميعِ الأُمَّةِ ألَّا يُدعَى لمشركٍ ولا يُستغفرَ لهُ إذا ماتوا على شركِهِم، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة:113] وقد بيَّن الله تعالى عُذْرَ إبراهيم في استغفارِه لأبيه فقال: {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة:114] فدعا لهُ وهو يرجُو إنابَتَهُ ورجوعَه إلى الإيمانِ، فَلَمَّا تبيَّنَ لهُ أَنَّهُ عدوٌّ لله تبرَّأ منه.
          ففي هذا مِنَ الفقه أَنَّهُ جائزٌ أن يُدعَى لكلِّ مَن يُرجَى مِن الكُّفَّارِ إنابتُهُ بالهدايةِ ما دام حيًّا لِأَنَّهُ صلعم إذْ شمَّتَهُ أحدُ المنافقين واليهود قال: ((يَهْدِيكُمُ الله وَيُصْلِحْ بالَكُم)) وقد يعمَلُ الرَّجلُ بعملِ أهلِ النَّارِ ويُختَمُ لهُ بعملِ أهلِ الجَنَّةِ.
          وفيه تصحيحُ القولِ بدليلِ الخِطابِ لاستعمالِ النَّبيِّ صلعم، وذلكَ أنَّ إخبارَه تعالى أَنَّهُ لا يَغفِرُ له ولو استغفَرَ سبعينَ مرَّةً يحتمل أَنَّهُ لو زادَ عَلَيْهَا أَنَّهُ يَغفِرُ لهُ، لكنْ لَمَّا شَهِدَ اللهُ تعالى أَنَّهُ كافرٌ بقولِه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:80] دلَّتْ هذهِ الآيةُ على تغليبِ أحدِ الاحتمالينِ وهو أَنَّهُ لا يَغفِرُ لهُ لكُفْرِه، فلذلكَ أمسكَ صلعم عن الدُّعَاءِ لهُ.
          وفي إقدامِ عمرَ على مراجعةِ رسولِ الله صلعم في الصَّلاةِ عليهِ مِن الفقه أنَّ الوَزِيرَ الفاضِلَ النَّاصِحَ لا حرجَ عليه في أن يخبِرَ سلطانَهُ بما عندَه مِن الرَّأيِ وإنْ كان مخالفًا لرأيِه وكانَ عليه فيه بعضُ الخفاءِ إذا عُلِمَ فَضْلُ الوزيرِ وثِقَتُهُ وحُسْنُ مذهبِه، فإنَّه لا يلزمُه اللَّومُ على ما يؤدِّيه اجتهادُه إليه، ولا يتوجَّه إليه سوءُ الظَّنِّ. وأنَّ صَبْرَ السُّلطانِ على ذلك مِن تمامِ فضلِه، ألا ترى سكوتَه صلعم عن عمرَ وتَرْكَهُ الإنكارَ عليه؟ وفي رسولِ الله صلعم أكبرُ الأُسوَةِ.